ماجد كيالي يكتب: حرب يونيو في ذكراها الـ53.. إطلاق الكفاح المسلح والكيانية الوطنية للفلسطينيين
استطاعت إسرائيل في حرب يونيو (1967) هزيمة ثلاثة أنظمة عربية، واحتلال أجزاء من أراضيها، وضمن ذلك استكمال احتلال باقي أرض فلسطين التاريخية، بحيث شكل هذا الحدث انعطافه حادة بين زمنين سياسيين لدى كل من العرب وإسرائيل، وفي مجال الصراع بينهما.
ومع أن النظام السياسي العربي اتفق على إطلاق تسمية النكسة على تلك الهزيمة، للتغطية عليها أو للتخفيف من وطأتها، فإن تلك الهزيمة، وهي حقيقة بمثابة نكبة ثانية، عرّت واقع تلك الأنظمة، وكشفت العطب في النظام الرسمي العربي، على تباين توجهاته وخطاباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مؤكدة بأن هذا النظام، على اختلاف شعاراته ومقولاته وادعاءاته، من نسيج واحد، لجهة عزل الشعب عن المشاركة بتقرير شؤونه ومستقبله، وإعلاء شأن السلطة على حساب الدولة ومؤسساتها، وتغليب الدولة الأمنية على دولة المواطنين.
بيد أن تلك الحرب تمخضت عن نتائج متباينة، أيضا، فهي التي أسست لانطلاقة وصعود العمل الفدائي، أو الكفاح المسلح الفلسطيني، من الأردن ولبنان وسوريا، لتنفيس الاحتقان في الوضع العربي، والتقليل من شأن الهزيمة التي لحقت بالواقع العربي، وبالأنظمة السائدة، ما يعني أن الحركة الوطنية الفلسطينية مدينة بصعودها إلى تلك اللحظة التاريخية، ما يستنتج منه بداهة أنه لولا تلك الحرب بالذات، ولولا حاجة النظام العربي، لما شهدنا نمو ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني، وتبلور الكيانية الوطنية للفلسطينيين المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، بالشكل الذي شهدناه بها، منذ أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات، سيما في الأردن ولبنان.
ذلك ليس القصد منه أنه من دون حرب يونيو (67) ما كنا سنشهد حركة وطنية فلسطينية، وإنما القصة منه أن تلك الحركة كانت ستظهر بأشكال أخرى، وتعبر عن نفسها بمظاهر أخرى مختلفة، ربما أضعف شيء فيها هو الكفاح المسلح، والوجود العسكري الفلسطيني في الأردن ولبنان.
في مقابل ذلك، أي في مقابل إطلاقها الكينونة الوطنية الفلسطينية، والكفاح المسلح الفلسطيني، فإن حرب يونيو أدت إلى حصول نقلة كبيرة في السياسة العربية، بانتقالها من مستوى الصراع على وجود إسرائيل، إلى مستوى الصراع على حدود إسرائيل، ومن مواجهة المشروع الصهيوني، إلى مواجهة العدوان الإسرائيلي. وبكلمة واحدة فقد انتقل الفكر السياسي الرسمي العربي، منذ حينها، من ملف 1948 إلى ملف 1967، وفي ذلك الحين برزت مقولات وشعارات إزالة آثار العدوان، وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967.
وفي كل ذلك فقد تراجعت المقولات والشعارات المتعلقة بقومية المعركة، وبشأن اعتبار قضية فلسطين بمثابة القضية المركزية للأمة العربية، إلى الوراء، بدعوى إبراز البعد الوطني الفلسطيني، والتركيز على دعم كفاح الشعب الفلسطيني، وهي مقولات على الرغم من أهميتها، إلا أن الغرض الحقيقي منها كان مجرد تبرير أو حجب الانكفاء الرسمي العربي في مجال الصراع ضد إسرائيل. أيضا كان من نتائج هذه الحرب توحيد فلسطين أو ما يسمّى “أرض إسرائيل الكاملة”، بحسب المصطلحات الإسرائيلية.
على صعيد إسرائيل، فقد بات ثمة تطابق في الوعي الإسرائيلي، خلال تلك المرحلة بين دولة إسرائيل و“أرض إسرائيل”، وفق المفهوم التوراتي (أرض الميعاد)، والمقصود هنا مناطق الضفة الغربية (أو يهودا والسامرة بالتعبير الإسرائيلي)، وحيث القدس باتت موحدة، ما نتج عنه تطور سياسي إسرائيلي كبير لجهة اقتراب الصهيونية الدينية من الصهيونية القومية والصهيونية العلمانية. أيضا، فقد رسخت حرب يونيو إسرائيل في مكـانة دولة إقليمية قوية ورادعة، وحليفة للغرب، في نظر مواطنيها اليهود، وبالنسبة إلى يهود العالم، كما في عموم المنطقة وعلى مستوى العالم. وبديهي أن نتائج هذه الحرب حسّنت من وضع إسرائيل الاقتصادي، بحيازة أراض جديدة ذات منـاطق زراعية، وبتمكين إسرائيل من السيطرة على المصادر المائية (في الضفة والجولان)، واستخدام اليـد العاملة الرخيصة من الضفة والقطاع، وتحويل هذه المناطق إلى سوق استهلاكية للبضائع الإسرائيلية.
أما بخصوص الفلسطينيين، وعد عن أن تلك الهزيمة شكلت دافعا لهم لإطلاق كفاحهم، وبناء كينونتهم الوطنية، فإن احتلال الضفة والقطاع أدى إلى توحيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وكان من نتائج ذلك أيضا الإخلال بالأكثرية اليهودية، وظهور ما بات يعرف بـ“القنبلة الديموغرافية”، التي باتت تهدد الطابع اليهودي لدولة إسرائيل. فوق كل ذلك، وبعد تلك الحرب باتت إسرائيل تعرّف كدولة استعمارية، كونها احتلت أراض بالقوة، وتسيطر على شعب أخر بوسائل القهر والقسر. كما باتت علامات الشك تطرح بشأن صدقية الديمقراطية الإسرائيلية، التي بدت بمثابة ديمقراطية لليهود وحدهم، في حين يجري التمييز بين السكان من غير اليهود، ما أثار شبهة العنصرية بالنظام الإسرائيلي، الذي بات نظاما استعماريا وعنصريا في آن معا.