ماجد كيالي يكتب: فيما يخص استئناف المسيرة التفاوضية..!
يثير الإعلان عن استئناف العلاقات مع إسرائيل، وفقا لاتفاقيات أوسلو، وتاليا إمكان استئناف العملية التفاوضية الفلسطينية الإسرائيلية، عديدا من التساؤلات والشكوك والشبهات حول سلامة صنع القرار في الساحة الفلسطينية، وطريقة تحديد الخيارات السياسية، فضلا عن عقلانيتها وشرعيتها وجدواها.
اللافت أن هذا القرار صدر من مؤسسة الرئاسة فقط، من دون أي اهتمام بقرارات الأطر الشرعية، التي هي أصلا تتشكل وتشتغل وفقا لتوجهات القيادة، والتي كانت اتخذت قرارات وقف تلك العلاقات، ومراجعة اتفاق أوسلو، ووفق التنسيق الأمني (منذ العام 2015)، وذلك لمواجهة خطة صفقة القرن، ومواجهة خطة نتنياهو لضم أجزاء من الضفة، وباعتبار أن إسرائيل تواصل أنشطتها الاستيطانية في الضفة، وتفرض هيمنتها على الفلسطينيين، وترفق الاعتراف لهم بدولة مستقلة، في أراضيهم المحتلة في يونيو/حزيران1967.
وبعض النظر عن سلامة ذلك القرار، من عدم ذلك، فإن عودة للتجارب التفاوضية التاريخية في العالم، تفيد بعدم جدوى المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل، ولا عقلانيتها، إذ أن التسويات لا تتحقق بالتوسلات والمناشدات، وإنما هي تتطلب تواجد عدة ظروف، أو شروط، من مثل قيام نوع من التكافؤ ولو النسبي في موازين القوى بين الأطراف المعنية (وهذه لا تشمل فقط القوة العسكرية)، وتوفّر عوامل دولية وإقليمية ضاغطة، تأخذ على عاتقها احتضان عملية التسوية وفرضها على الأطراف المعنية. كما يتطلب ذلك تخليق حالة مجتمعية، عند الأطراف المعنية، تقوم على وجود مصلحة في التسوية وتدفع إليها، لاعتبارات عديدة، منها ارتفاع كلفة حال العداء أو الاحتلال (من النواحي الأخلاقية والاقتصادية والسياسية وليس البشرية فقط)، أو لاقتناع مجتمع المعتدين أو المستعمِرين بضرورة التحرّر من علاقات الاحتلال، إن لتطور في الثقافة السياسية والأخلاقية عندهم، أو بسبب ارتداد تداعياته عليهم. هكذا، حصلت تسويات الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة، وهكذا انتهت النظم الاستعمارية في آسيا وإفريقيا، وهكذا تمت تصفية نظام التمييز العنصري «الأبارتايد» في جنوب إفريقيا.
الآن، إذا حاولنا ترجمة كل ما تقدم على واقع التجربة التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، سنجد إنها خلت من أي عامل من العوامل المذكورة آنفاً. فليس ثمة أي تكافؤ في موازين القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا عوامل دولية وإقليمية (وعربية) تضغط على إسرائيل، من أجل حضّها على عملية التسوية؛ ولو وفق قرارات الشرعية الدولية (برغم الإجحافات المتضمنة فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين).
أما في شأن قبول المجتمعين المعنيين للتسوية، فمن الواضح أن القيادة الفلسطينية استطاعت أن تجعل برنامج التسوية برنامجاً مقبولاً من قبل قطاعات واسعة من الفلسطينيين. وفوق ذلك فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، وبنتيجة تحولها من حركة تحرر إلى سلطة، استطاعت أن تخلق واقعاً من الاحتلال المريح لإسرائيل (بوهم التسوية)، ما جعل هذا الاحتلال أرخص احتلال عرفه التاريخ (بحسب تصريح، أو اعتراف، سابق للرئيس محمود عباس!)؛ بحيث أن إسرائيل بقيت قوة احتلال مع تحررها من أعباء الاحتلال. لكن مقابل ذلك من الواضح أن المجتمع الإسرائيلي (بتياراته السياسية) لم يتجاوب إلى الدرجة المناسبة مع هذا الواقع، الذي يعد فرصة استثنائية له، لتشريع وجود إسرائيل في المنطقة، وإنما على العكس، فقد سار هذا المجتمع باتجاه التشدد والتطرف. هكذا بتنا نشهد كيف أن الإسرائيليين يصرون على استمرار الاستيطان في الضفة وينتهجون ممارسات مغرقة في عنصريتها ضد الفلسطينيين (حتى من مواطني إسرائيل)، بدعوى الحفاظ على يهودية إسرائيل.
ومعنى ذلك أن واقع الاحتلال المريح، وتوجه الفلسطينيين نحو استمرار العلاقات مع إسرائيل، والتفاوض معها، لم، ولن، يخلق التداعيات اللازمة لخلق ثقافة تسوية (ولو نسبية) عند غالبية الإسرائيليين، بل إنه شجع، ولا زال، هؤلاء على المزيد من التشدد، القومي والديني، لإنفاذ السياسات الاستعمارية والعنصرية والقهرية ضد الفلسطينيين. لماذا؟ لأنه ليس ثمة أكلاف للاحتلال، ولأنه ليس ثمة ضغط دولي وإقليمي وعربي لإنهاء الاحتلال فعلاً، ولأن الفلسطينيين في غاية الضعف والتنازع فيما بينهم، ولأنهم باتوا رهن واقع السلطة، والعلاقات، أو الارتهانات، المترتبة عليها (في الضفة وغزة).
حتى العامل الديموغرافي، الذي بدا لمرحلة وكأنه يضغط على إسرائيل، باتت هذه وكأنها لا تضعه في حسبانها، فهي تخلصت من حوالي مليوني فلسطيني في قطاع غزة، عبر الانسحاب الأحادي منه (2005)، وهي تلوح بإمكان القيام بإجراءات حدودية في الضفة، لتحديد حدودها مع الفلسطينيين (بشكل أحادي)، وترك الفلسطينيين يتدبرون أمرهم خلف الجدار، مع احتفاظها بالسيطرة الأمنية والاقتصادية عليهم؛ من دون أن ننسى إجراءاتها للتضييق على مواطنيها من الفلسطينيين؛ لدرجة إخراجهم من نطاق المواطنة.
القصد مما تقدم أن عملية المفاوضات من أساسها، ومنذ بدايتها، لم تكن تجري على أسس صلبة وصحيحة، كما أوضحنا، وكان من الخطأ المراهنة عليها وحدها. فهذه العملية كانت بمثابة نوع من استمرار الأمر الواقع بطريقة أخرى، أي بطريقة مريحة لإسرائيل، وهو ما أتاحه تخليق السلطة، التي باتت اليوم بمثابة سلطتين تتنازعان السلطة على الشعب الفلسطيني، مع الأسف، بدل التنازع مع الاحتلال!
والمعنى أن الوضع الفلسطيني بات يتطلب معادلات وخيارات أخرى، ربما في مقدمتها وضع ملف التفاوض في عهدة الأمم المتحدة، طبقا لقراراتها، باعتبار أن تلك القرارات تغطي مختلف جوانب القضية الفلسطينية، ولا تحتاج الى مفاوضات، وإنما تحتاج إلى إنفاذها لو توفرت الإرادة الدولية.