ماجد كيالي يكتب: في تصدع الهوية والكيانية الفلسطينية
منذ النكبة (1948)، أي منذ إقامة إسرائيل، وتشريد معظم الشعب الفلسطيني خارج وطنه، بات ثمة افتراق واضح بين الهوية والكيانية عند الفلسطينيين، بحيث أن هذا الافتراق أضحى بمثابة ثابت، بل إنه بات أحد أهم عوامل الأزمة الهوياتية والكيانية المقيمة عند الفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود.
والحاصل فإن تداعيات النكبة لم تمكن الفلسطينيين من تحقيق هويتهم، أو ذاتهم، الوطنية، في كيان سياسي متعيّن في إقليم محدد، أسوة بالسوريين واللبنانيين والأردنيين والعراقيين، مثلا، لأسباب تتعلّق بقيام إسرائيل في معظم أرضهم التاريخية (1948)، وممانعة النظام الرسمي العربي محاولتهم إقامة كيان مستقل لهم (كما تمثّلت بحكومة “عموم فلسطين”)، التي انتهت إلى إخفاق ذريع بسبب الممانعة الخارجية.
وما فاقم من أزمة الهوية والكيانية عند الفلسطينيين طبيعة إسرائيل ذاتها، التي تأسّست باعتبارها دولة يهودية، وعلى أساس الاستيطان، وضمنه نفي الفلسطينيين (الشعب الأصلي) وإزاحتهم من المكان والزمان، أي من الجغرافيا ومن التاريخ، والحلول مكانهم.
بيد أن ما تقدم هو جانب من الحكاية فقط، أما الجانب الآخر فيتمثّل في أن أطراف النظام الرسمي العربي، التي لم تستطع شيئا إزاء التحدي الذي فرضته إسرائيل عليها في المنطقة، لجأت إلى كبح، أو تقييد، “الوطنية” والكيانية الفلسطينيتين، فضلا عن التلاعب بهما في بعض الأحيان، وبشكل مبكر، أي عقب النكبة مباشرة.
إضافة إلى ما تقدم، يمكن الاستنتاج بأن أزمة الهوية والكيانية عند الفلسطينيين ناشئة، أيضا، عن التأزّم الهوياتي والكياني الذي تكابد منه مجتمعات ودول المنطقة، أيضا، رغم حصول هذه على استقلالها، خلاف الفلسطينيين الذين حرموا من ذلك. والواقع فإن الاستقلال في دولة، في إقليم متعيّن، في بلدان المنطقة، لم يحل دون التنازع بين الهويات أو العصبيات الأولية (المذهبية والطائفية والأثنية والعشائرية)، ولا بين تلك وبين مسارات تشكّل الهويات الوطنية الجامعة، لسبب واضح وهو أن الكيانات السياسية في بلدان المشرق العربي لم تتشكّل، أو لم تنضج، على شكل دولة، بمعنى الكلمة، أي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، الأمر الذي جعلها بمثابة مجتمعات قلقة، وهو ما شهدنا نتائجه الكارثية في السنوات العشر الماضية.
هكذا شهدنا أن تلك الكيانات الدولتية لم تشتغل بالشكل المناسب من أجل تحقيق الاندماجات الوطنية، ومن أجل خلق المجال الوطني العام، كما لم ترسّخ ذاتها باعتبارها كيانا سياسيا جامعا على شكل دولة مواطنين، بقدر ما اشتغلت على ترسيخ وضعها باعتبارها سلطة أكثر، ودولة اقل، مقابل “الرعيّة”. وحتى بالنسبة لإسرائيل، التي تتكشّف عن كونها دولة شرق أوسطية “قديمة”، فثمة منازعات فيها بين الهويتين الشرقية والغربية، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين كونها دولة يهودية (لكل اليهود) أو كونها دولة إسرائيلية (لليهود فيها)، وبين حدودها في 48 أو في 67.
المعنى من ذلك أن حال الفلسطينيين، الذين تفرّق شملهم وحرموا من كيان خاص بهم، ليس أكثر بؤسا، بكثير، من حال أشقائهم من المواطنين في البلدان العربية الأخرى، في مجالي الهوية والكيانية.
والمؤسف أنه منذ زمن طويل بات ثمة خشية حقيقية من تحول الفلسطينيين إلى فلسطينيين كثر، على طريقة فلسطينيي 48 وفلسطينيي الأراضي المحتلة (في الضفة والقطاع)، والفلسطينيون اللاجئون، وثمة بين هؤلاء وضعا خاصا للاجئين في الأردن الذين باتوا مواطنين، في حين تكاد تختفي مجتمعات اللاجئين في سوريا ولبنان والعراق.
وفي الواقع فإن هذا الأمر بدأ بالتفاقم مع تهميش منظمة التحرير التي كانت بمثابة كيان سياسي معنوي للفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم (وهذا لم يشمل الفلسطينيين في إسرائيل)، ومع اختزال مشروعهم الوطني بمشروع جغرافي، من دون صلة بمضامين هذا المشروع من النواحي السياسية والثقافية، ومن دون صلة بأية رؤية مستقبلية للتطورات في هذه المنطقة، بات لكل تجمع فلسطيني رؤيته، أو أجندته الخاصة.
هكذا، مثلا، ذهب فلسطينيو 48 نحو الكفاح ضد العنصرية ومن اجل حقهم في المساواة في إسرائيل وفي التعبير عن ذاتهم وعن هويتهم، كجماعة قومية في دولة مواطنين، إلى جانب دفاعهم عن حق شعبهم في الحرية والاستقلال. وبالمثل فإن الفلسطينيين في الضفة والقطاع المحتلين بذلوا الكثير من التضحيات من اجل دحر الاحتلال من أرضهم ومن اجل نيل حقهم في “الحرية والاستقلال” في دولة مستقلة. أما الفلسطينيون اللاجئون، الذين تحمّلوا عبء النهوض الفلسطيني (1965ـ1982)، والذين يخضعون لسلطات عربية متعددة ومتباينة، والذين باتوا يشعرون بالتهميش جراء تغييب منظمة التحرير، وجراء تقديم هدف إقامة الدولة المستقلة على حقهم في العودة، فباتوا يشعرون إنهم باتوا على هامش المشروع الوطني، سيما انه ليس ثمة صلة أو توسّطات أو إطارات تربطهم بالسلطة.
المعضلة هنا أنه لم يعد ثمة تطابق بين الكلام المرسل عن الشعب (من الناحية النظرية) وبين حدود المشروع الوطني المطروح الذي يختزل هذا الشعب، في الممارسة السياسية، بالضفة والقطاع المحتلين، وهذا يخص بتقويض السردية الجامعة، بما يفيد بتصدع رؤية الشعب لذاته أو لهويته، كما يفيد الافتقاد لكيان سياسي جامع، أو تصدع الفكرة الكيانية الجامعة؛ وهذان أمران يفترض أن يكونا على رأس أجندات الفلسطينيين من الأكاديميين والمثقفين والفاعلين السياسيين.