ماجد كيالي يكتب: في ذكرى رحيل ياسر عرفات.. سيرة شخص في شعب

ماجد كيالي

في هذه الظروف الصعبة، والمعقدة، التي تؤكد دخول الشعب الفلسطيني وقضيته، وحركته الوطنية في مرحلة جديدة، لابد من استعادة سيرة الراحل الكبير ياسر عرفات، الذي شكل ظاهرة استثنائية في تاريخ الشعب الفلسطيني، وربما في تاريخ حركات التحرر الوطني قاطبة، سيما بالمقارنة، أو من دونها، مع القيادة الراهنة.

في أواخر الخمسينيات بدأ ياسر عرفات، مع مجموعة من رفاقه، يعدّ اللبنات الأولى لإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تم الإعلان عنها فيما بعد باسم حركة “فتح”، في الأول من يناير 1965.

ومنذ ذلك التاريخ صنع ياسر عرفات انقلابا دراماتيكيا في حياة شعبه، وفي التاريخ السياسي للشرق الأوسط كله، إذ تمكن ورفاقه من النهوض بشعبه وقضيته، في ظروف دولية وعربية صعبة، بل ومستحيلة، وفي ظل اختلال بيّن في موازين القوى لصالح إسرائيل ومنذ ذلك التاريخ باتت علامات الشك تحوم حول جدوى المشروع الصهيوني، وحول مدى استمرارية الدولة الصهيونية في المنطقة العربية.

بديهي أن رحلة ياسر عرفات إلى الحلم الفلسطيني لم تكن سهلة أو معبدة، في الصراع على المكان والزمان والمعنى، بل إنها كانت أقرب إلى المستحيل، فقد انطلقت الثورة الفلسطينية من نقطة الصفر، على مختلف الأصعدة، أي على رغم محاولات الإنكار والنفي والتغييب الإسرائيلية، ومحاولات التهميش والتقييد في الواقع الإقليمي العربي، والصمت والتجاهل على الصعيد الدولي.

على الصعيد الفلسطيني، مثلا، لم يكن لشعب فلسطين وجود سياسي خاص، والفلسطينيون بالكاد كان يعترف بهم كلاجئين، وقد أدت تداعيات النكبة (1948) إلى تقويض البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهم، إذ باتوا مشردين في أصقاع العالم، ليس لهم عنوان محدد، ويخضعون لسيادة أنظمة سياسية واجتماعية متباينة. وفي لحظات النكبة تلك انخرط الفلسطينيون في شتى الحركات السياسية العربية، من قومية ويسارية وإسلامية، للتعويض عن الانهيار الحاصل في بنيتهم السياسية، وفي محاولة منهم للبحث عن وطن.

في لحظات الانهيار والإحباط والضياع تلك جاءت انطلاقة (فتح) بقيادة ياسر عرفات، أو”السيد فلسطين”، كما كان يطلق عليه آنذاك. وكان هذا الرجل يعتمر الكوفية المرقطة السوداء، وكان كل ما فيه يشبه شعبه.

لم يكن ثمة لفتح أيدلوجية، وهو لم يكن سليل عائلة كبيرة، فقد كان ابن الشعب الفلسطيني، وعندما سئل عرفات عن أيدلوجية الحركة التي يقودها (ضمن سوق الأيدلوجيات التي كانت رائجة آنذاك)، أجاب إنها فلسطين! ولعل في هذه الكلمة كان يكمن سحر عرفات وسره، فبهذه الطريقة استطاع توحيد الفلسطينيين، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية من حوله، وبذلك بات مؤسسة وطنية بذاتها فوق كل المؤسسات التي صاغها، وتحول إلى الزعيم للشعب، والرمز للوطن، والوصي على القضية.

وعلى مدار أربعة عقود أعطى ياسر عرفات ما لم يعطه شخص لقضية، إذ تماهت قضية فلسطين وشعبها في شخصيته، وبات عرفات بمثابة رمز لنهوض شعب وقيامة وطن.

وطوال هذه الفترة واجه عرفات، ومعه حركة التحرر الفلسطينية، العواصف والأنواء، في مواجهته إسرائيل، كما في مواجهته تعقيدات ومداخلات البعدين الإقليمي والدولي، ولكن هذا الشعب استطاع أن يؤكد وجوده وأن يبلور هويته وأن يفرض حقيقته على خريطة الشرق الأوسط،، وفي المعادلات السياسية الإقليمية والدولية، بفضل صبره وصموده وعناده.

هكذا فعلى مر أربعة عقود من الزمن، بعواصفها وزلازلها، مثّلت سيرة ياسر عرفات نهوض قضية وقيامة وطن وتطلّع شعب إلى الحرية، في إطار من الصراع على الزمان والمكان والمعنى؛ حيث استطاع الفلسطينيون، بحيويتهم وتضحياتهم، وبعنادهم وبطولاتهم، أن يفرضوا حقيقتهم، رغم محاولات الإنكار والنفي والتغييب الإسرائيلية، ومحاولات التهميش والتقييد في الواقع الإقليمي العربي، ورغم الصمت والتجاهل الدولي.

ولاشك أن نجاحات عرفات على الصعيد الوطني، المقترنة بزهده وتواضعه واخلاصه، ارتبطت أساسا بإيمان الفلسطينيين المقدس بقضيتهم، وحيويتهم، واستعدادهم العالي لتقديم التضحيات، مثلما ارتبطت بإرادتهم الحرة على الصمود والمقاومة، برغم كل الصعوبات والمعاناة، التي كابدوها على دروب الحرية والكرامة.

ومع كل الانتقادات التي يمكن كيلها له، والتي يمكن له تقبّل أكثريتها، ولو على مضض، وعيا منه لمكانته الرمزية والوطنية، فإن التاريخ سيسجّل لياسر عرفات أنه صاحب المبادرة في إطلاق الكفاح التحرري ضد إسرائيل، الذي جاء بالشعب الفلسطيني من غياهب اللجوء والشتات والنسيان إلى معادلات السياسة في الشرق الأوسط، وأنه حافظ على مكانته المعنوية في قيادة الشعب الفلسطيني على اختلاف تلاوينه وتياراته، وأنه وضع شعبه المولع بالرموز والشعارات على عتبة الواقعية السياسية، إدراكا منه إلى حاجة الفلسطيني الماسة إلى تحويل حلمه الدائم في وطن متخيّل مسكون بالذاكرة، إلى وطن متعيّن على الخريطة، في عالم لا يعترف إلا بحقائق موازين القوى ومعطيات السياسة.

لم يتعاط الفلسطينيون مع ياسر عرفات على أنه مجرد قائد سياسي، فقط، أو على أنه مجرد رئيس، فحسب، فهو بالنسبة لهم أكبر وأكثر وأعمق من ذلك، فهو زعيمهم وصانع هويتهم الوطنية وقاسمهم المشترك، وهو مؤسّس الكيانية الفلسطينية؛ ومن هذا كله يستمدّ أبا عمار مصادر قوته، وفي كل ذلك تتجذّر شرعيته، وعبر كل ذلك تكمن أسطورته.

وتبدو مأثرة ياسر عرفات الفريدة أنه الزعيم الوحيد ربما في هذا العالم العربي الذي محضه شعبه ثقته، ولو جاءت مشوبة ببعض الاختلافات، من دون أن يكون له سيادة إقليمية مباشرة على أي من التجمعات التي يعيش فيها الفلسطينيون، في الأراضي المحتلة وفي مناطق اللجوء المختلفة، وفي أماكن الشتات الشاسعة!

وهذا الرجل هو الشخص الذي وحّد الشعب الفلسطيني بمختلف تياراته، الوطنية والقومية واليسارية والدينية، من حوله. وهو الزعيم الذي ظل الفلسطينيون يجمعون عليه، بمختلف المراحل والمسارات، من مسيرة الثورة إلى مسار التسوية. وهو الذي استطاع نقل الوعي السياسي لشعبه من الشعارات إلى أرض الواقع، ومن التوهمات إلى الممكنات، ومن المطلق إلى النسبي. فهو أبو الواقعية والبرغماتية السياسية، برغم تمسكه بأهداب التاريخ ووقوفه عند تخوم الأسطورة!

باختصار، يمكن ان تختلف مع أبو عمّار (رحمه الله) في السياسة والإدارة والخيارات، لكنك لا يمكن إلا أن تكنّ له الإعجاب، فهو الشخصية الأكثر تأثيرا في قيامة الشعب الفلسطيني، بعد مصاب النكبة، والأكثر فاعلية في صوغ الهوية الفلسطينية، والأكثر إيمانا باستقلالية القرار الوطني. مع ذلك فإن الزعيم الراحل يتحمل مسؤولية كل ما وصلت إليه قضية فلسطين، والحركة الوطنية الفلسطينية، بقدر مسؤوليته في القيادة. والمهم الآن أن ثمة مرحلة انتهت، والفلسطينيون الآن أحوج إلى مؤسسة قيادة، تمثيلية وديمقراطية، أكثر من حاجتهم إلى زعيم.

 

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]