ماجد كيالي يكتب: في نقد أصحاب عقلية المؤامرة إذ كل شيء مكشوف!
لا يخلو عالم العلاقات والصراعات السياسية، الوطنية والإقليمية والدولية، من التآمر، أي بوجود خطط لدى طرف، أو عدة أطراف، لتحقيق أهداف معينة، ضد طرف آخر، وهذا أمر بديهي.
بيد أن ما ينبغي الانتباه إليه أن هذه الخطط لا يقدّر لها الخروج من المكاتب إلا إذا توفّرت لأصحابها القوة اللازمة لفرضها، وتحويلها إلى واقع، أو تحيّن الفرص المناسبة لذلك، ما يعني أن الطرف الآخر يكون قد سهّل، أو مكّن، المؤامرة منه، عن قصد منه أو من دون ذلك، ما يفيد بأن المؤامرة ليست قدراً لا يمكن تجنّبه، أو التقليل من آثاره، بخاصة في الحالة الثانية.
المشكلة هنا لا تتعلق بالمؤامرة وإنما في التفكير بالواقع حصراً بواسطة عقلية المؤامرة، وهي عقلية عمومية تتأسّس على التخيّل وتقسيم العالم، بطريقة مبسّطة ومنمّطة، إلى ثنائية من نوع أخيار أو أشرار، أبيض أو أسود، مع أو ضد. وإذ توحي هذه العقلية بوجود عالم سري وقوى غامضة ومؤامرات خفيّة فإنها توحي، أيضاً، بنقيض ذلك، بادعائها معرفة كل شيء، وأن ما يصدر عنها هو بمثابة حقيقة مطلقة لا تتزعزع.
وللإنصاف، فإن هذه العقلية لا تصدر من فراغ لكنها بدل تحليل الواقع بإشكالياته وتناقضاته وتعقيداته تذهب نحو تشجيع التخيّل، وعوض تحديد المشكلات الذاتية، وتعيين أسبابها الداخلية، تروّج لإحالتها إلى المؤامرة الخارجية. والغالب أن هذا كله يأتي في سياق تغطية أصحاب هذه العقلية مداهنتهم السلطات المهيمنة، بدعوى التركيز في مواجهة العدو الخارجي، وأحيانا كثيرة بدعوى أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وبدعوى البوصلة، في حين هم يفعلون كل شيء عكس ذلك.
هكذا، فإن مشكلة أصحاب عقلية المؤامرة تكمن، أيضا، في تفصيل بسيط مفاده أنه لا توجد مؤامرات خفيّة حقاً، لا سيما في أوضاعنا العربية، فكل شيء معروف، أي طبيعة القوى التي تتصارع على العالم العربي، والتحديات والمخاطر التي تواجه المجتمعات العربية، ومكامن النقص والعطب فيها، حتى أن ثمة مؤتمرات وندوات نظمت لعرضها ومناقشتها، فضلاً عن نشرها في كتب ووسائل الإعلام. هذا يشمل اتفاقية “سايكس بيكو”، ووعد بلفور، وخطط إقامة إسرائيل، منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، وصولاً إلى الغزو الأمريكي للعراق (2003)، وما بعده.
في هذا الإطار يمكن التذكير بكثير من هذه المؤامرات، أو الخطط، فمثلاً ثمة ما يسمى “اللجنة الثلاثية”، التي أدارها زبينجيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي (بعد كيسنجر) في عهد الرئيس كارتر (1977 – 1981)، والتي شكّلت بدفع من ديفيد روكفلر (مطلع السبعينيات)، وضمّت ساسة وقادة رأي من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وقيل إنها تهدف إلى تعزيز السيطرة على العالم وضمنه العالم العربي، كأن هذا أمر سري أو مستغرب، أو كأن هكذا لجنة تزيد أو تنقص من ذلك.
وقد يفيد هنا التنويه إلى تفصيل آخر، وهو أن بريجنسكي كان نشر كتاباً عنوانه: “بين عصرين – أمريكا والعصر التكنتروني” (1970)، تحدث فيه صراحة عن قرب انهيار الاتحاد السوفييتي (قبل حصول ذلك بعقدين)، بحكم إخفاقه في ثلاث مسائل: توق الناس للحرية، والمسألة القومية، والتقدم التقني، وعدم قدرته على مواجهة تحدي النموذج الذي تمثله الولايات المتحدة، في هذه المسائل، وهو ما حصل بطريقة مفاجئة وسلمية في مطلع التسعينيات، كما شهدنا.
أيضا، يمكن هنا الحديث عن كتاب ريتشارد نيكسون: “الفرصة السانحة”، الذي اعتبر فيه (أوائل التسعينيات) أن الظروف باتت سانحة للولايات المتحدة لتعزيز سيطرتها كقطب أوحد على العالم، ولا سيما على الشرق الأوسط، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولعل أبرز تلك المخططات لك التي نشرها وقدمها تيار “المحافظون الجدد”، بخاصة المتعلقة بالمنطقة العربية، مستغلين حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي تتضمن ضرورة استخدام الولايات المتحدة القوة لفرض الترتيبات التي تتلاءم مع مصالحها (ومصالح إسرائيل)، فيما سمي “مشروع القرن الأمريكي”، عبر تحكمهم بالإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن (2001-2009)، وبنفوذهم في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، ومراكز الدراسات الاستراتيجية.
وكان أبرز هؤلاء ريتشارد بيرل رئيس “مجلس سياسة الدفاع” في البنتاجون (مجلس استشاري) وبول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع في عهد بوش الابن، ودوجلاس فايث (وزارة الدفاع) وروبرت كاغان، وجون بولتون (وزارة الخارجية، الذي اشتغل لفترة مستشارا للأمن القومي في إدارة ترامب المنصرفة).
وتركزت دعاوى هؤلاء على استغلال أمريكا جبروتها العسكري لفرض ما تريد في العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، ومنع صعود أي قوة مناهضة لها، واستخدام الحرب الوقائية، والتدخلات العسكرية، وذلك بدعوى محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية.
وكان الرئيس بوش الابن طرح خطته المتعلقة بـ “نشر الديمقراطية” في العالم العربي (2002)، لفرض الإصلاح السياسي فيه، ثم خطته لإقامة “الشرق الأوسط الكبير” (2003)، وهذه غير خطة “الشرق الأوسط الجديد”، التي طرحت إبان إدارة كلينتون في التسعينيات، وكلها خطط علنية ومنشورة، بل ونوقشت مع الحكومات العربية مباشرة، وطرحت في مؤتمرات القمم العربية، ونظمت لها ورش عمل وندوات.
ومؤخرا، ومع الإدارة الأمريكية السابقة، طرح ترامب خطته المسماة “صفقة القرن”، وكان الهدف منها إزاحة قضية فلسطين من الأجندة العربية والدولية، وفتح المجال للتطبيع العربي ـ الإسرائيلي، وتخلي الولايات المتحدة عن دورها كراع لعملية التسوية، وضمنها اتفاق أوسلو، وفرض الإملاءات الإسرائيلية على الفلسطينيين من طرف واحد.
على ذلك لا توجد مؤامرات أو خطط سرية، فكل شيء علني تقريباً، فالضعفاء لا يحتاج أحد للتآمر عليهم. ثم إن اعتبار وجهات النظر أو الدراسات، الصادرة عن مسؤولين أو صناع رأي أو مراكز أبحاث في الدول الغربية، بمثابة خطط للتنفيذ، ينم عن جهل بهذه الدول، وآليات عملها، فهي تعج بمراكز الدراسات والجامعات، التي تنتج عشرات الخطط والخيارات لتضعها أمام صناع القرار، من دون أن يعني ذلك الأخذ بها، أو إمكان تحقيقها، ناهيك عن أن ثمة وجهات نظر أخرى متباينة ومتناقضة في هذه الدول. فوق هذا وذاك فإن أصحاب التفكير بعقلية المؤامرة يفوتهم أن الغرب لا ينشغل فقط بالمؤامرات وبالهيمنة، وإنما هو ينشغل أيضاً بالعلوم والتكنولوجيا والثقافة، وبتطوير مجتمعاته واقتصادياته.
القصد أن المشكلة تكمن عندنا، أولاً، لأن النظم السائدة هي التي تتحمل المسؤولية عن تردي أحوالنا، وتهميش مجتمعاتنا، بإعاقتها قيام دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، التي يمكن أن تؤسس لمجتمعات حية وفاعلة. وهي بسياساتها المتعلقة بمصادرة الحريات والحقوق وتغول الأجهزة الأمنية وشيوع الفساد، وتردي مستوى التعليم والخدمات والبنى التحتية، وضعف العلاقات البينية العربية أسهمت في إضعاف العالم العربي إزاء الخارج.
وثانياً، لأن المعنيين عندنا يعرفون عن الخطط المذكورة، ولا يفعلون شيئاً لصدها، أو للتقليل من مخاطرها. بل إنهم يبدون تجاوباً مع الضغوط الخارجية للإصلاح، والتي كانت تحدثت عنها “تقارير التنمية الإنسانية العربية”، في حين يصدون المطالبات الداخلية.
وكان النظام العربي توحد في مواجهة مشروعي “الشرق الأوسط الجديد”، و”الشرق الأوسط الكبير”، إبان ولايتي كلينتون وبوش، وأفشلهما، فقط لأنهما يتهددان طبيعة الأنظمة، لكنه لم يفعل المثل إزاء التحديات والمخاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتهدد العالم العربي، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.
عموما، يجب ألا يغيب عنا أن لدينا، كما في الغرب، من يفكر بالخلافة وبالإمبراطورية الإسلامية، أو العربية، وحتى بالعودة إلى الأندلس وقبرص ومالطة، لكن من دون صلة بالواقع وبالعالم وبالعصر، ولا بأية أمور أخرى، تبدو أكثر الحاحًا وأهمية.