ماجد كيالي يكتب: نقاش في شأن انتفاضة ثالثة مستعصية

 

مازال البعض، من الفصائل أو من الشخصيات الفلسطينية، بين موجة انتفاضية وأخرى، مثل التي نشهدها اليوم، يقوم باستدعاء انتفاضة ثالثة، في محاولة لاستعادة زمن الانتفاضتين الأولى (1987/1993) والثانية (2000/2004)، بيد أن تلك الانتفاضة لا تأتي، أو لا تستجيب لرغباتهم، أو بالأحرى لتخيّلاتهم عن الانتفاضة.

الانتفاضة الثالثة تلك لا تأتي لسبب بسيط مفاده أنها لا تأتي غبّ الطلب، او المزاجيات، أو كرهن لتوظيفات معيّنة، وإنما هي تأتي بطريقة فجائية وعفوية، بالشكل الذي يبتدعه الشعب ذاته، ووفقا لإمكانياته، وبحسب قدرته على التحمّل، سيما أننا لانتحدث هنا عن خطط لفصائل، فنحن لانملك فصائل لديها استراتيجيات واضحة، أصلاً، كما لا نتحدث عن حالة تسيطر فيها الفصائل على الحركة الشعبية، أو توجّهها.

وفي الواقع فإن الحديث عن انتفاضة ثالثة هو، أولاً، دليل فقدان سيطرة، لأن من يريد هكذا انتفاضة يفترض به القدرة على ايجادها، او الدفع باتجاهها وتأمين امكانياتها. ثانيا، إن ذلك دليل على ضيق أفق، بواقع ثبات أشكال نمطية معينة في أذهان المعنيين، علما أن الانتفاضة الأولى تختلف تماما عن الانتفاضة الثانية، وكأن الشعب الفلسطيني، الذي ابدع الانتفاضة الأولى، مثلا، غير قادر على ابتداع اشكال أخرى. ثالثا، هذا دليل على انفصام عن الواقع، سواء واقع أن الحركة الشعبية باتت بعيدة جدا عن الأجسام الفصائلية السائدة، أو واقع أن ظروف الفلسطينيين اليوم تختلف تماما عن ظروفهم ابان الانتفاضتين الأولى والثانية.

مثلا، اتسمت الانتفاضة الأولى بعفويتها، وغلبة أشكال الكفاح الشعبي عليها، مع استقلالية أعلى عن الفصائل، وفي ظروف ما قبل اقامة السلطة، أي في ظروف كان فيها احتكاك كامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كجيش وكمستوطنين. في المقابل فإن الانتفاضة الثانية قامت بعد قيام السلطة، وفي ظروف كان الاحتكاك اقل مع الإسرائيليين، وغلب عليها الطابع الفصائلي، وطغت فيها العسكرة، ونمط العمليات التفجيرية.

بعد الانتفاضة الثانية (2000/2004)، اختلف الوضع كثيرا عن السابق، إذ أن إسرائيل قللت كثيرا من احتكاكها بالفلسطينيين، وأنشأت الجدار الفاصل، واحاطت المدن والقرى الفلسطينية بالمستوطنات، والنقاط الاستيطانية والحواجز العسكرية، اي قوضت وحدة الضفة الغربية، ناهيك عن الفصل بين الضفة والقدس، وبينهما وقطاع غزة، الأمر الذي فاقم منه الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني، بعد انسحاب إسرائيل الأحادي من القطاع (2005).

وبكلام أوضح، فإبان الانتفاضتين السابقتين، كان ثمة تداخل كبير بين مجتمعي الفلسطينيين والإسرائيليين، في الجغرافيا والديمغرافيا، وفي السياسة والاقتصاد والأمن، لذا فعندما حدثت الانتفاضة أثرت كثيراً على المجتمع والدولة الإسرائيليين، واستطاعت أن تؤثر في المزاج العام الإسرائيلي، وأن تثير التناقضات في صفوف الإسرائيليين، الأمر الذي نتج عنه تراجع حزب الليكود، وتزايد وزن التيارات المؤيدة لتسوية مع الفلسطينيين، وهو ما تم حله في اتفاق أوسلو (1993)؛ الناقص والمجحف، الذي حل مشكلة لإسرائيل ولم يحل أية مشكلة للفلسطينيين. هكذا ففي الانتفاضة الثانية حدث مثل ذلك التأثير، ولكن بشكل مختلف، فتلك الانتفاضة التي غلب عليها طابع العمليات المسلحة، وضمنها العمليات التفجيرية، التي أوجعت الإسرائيليين، وحدتهم في مواجهة الفلسطينيين، ما نتج عنه إعادة احتلال مناطق السلطة، وتعزز مكانة التيارات اليمينية القومية والدينية في إسرائيل، فضلاً عن أنها غطت على بطش إسرائيل بهم، وسهلت لها التملص من التزاماتها المنصوص عنها في اتفاق أوسلو.

ولعل كل ما تقدم يفسّر أن الهبّة الشعبية، أو الموجة الانتفاضية، الحاصلة، وكما حصل في هبتي يوليو وديسمبر (2017) (والموجات الانتفاضية المتفرقة الحاصلة منذ العام 2014) أتت على شكل اشتباكات محدودة في نقاط تماس المدن الفلسطينية مع المواقع العسكرية الإسرائيلية، وعند المعابر، وهو ما يحصل عند معبر قلنديا، الواصل بين القدس ورام الله، وعند مسجد بلال (أو قبر راحيل) في بيت لحم، والنقطة الاستيطانية في قلب مدينة الخليل، وعند الحدود بين غزة وإسرائيل، وهو ما يفسر أن أكثر نقاط الاحتكاك والاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي في القدس الشرقية.

جانب آخر يفترض ملاحظته، على نحو جيد، ويتمثل في الواقع السياسي والمجتمعي الجديد الناجم عن قيام السلطة الفلسطينية، إذ ثمة حوالي ربع مليون من الفلسطينيين يعيشون من دخلهم كموظفين في أجهزتها الإدارية والخدمية والأمنية، والذي يتأتى من الدول المانحة لعملية “السلام”، وهؤلاء ترى أغلبيتهم في الواقع القائم نمط حياة من الصعب تغييره، سيما في الظروف العربية والدولية الراهنة، وغير المواتية. فوق ذلك ثمة، أيضاً، العقيدة التي نشأت عليها الأجهزة الأمنية، التي ترى أن وظيفتها منع، أو كبح أي حراك شعبي ضد إسرائيل، كما حصل في مرات عديدة، باعتبارها له نوعا من تحدي السلطة الفلسطينية ذاتها.

مع كل ما تقدم، فإن ما يفاقم الأمر حقيقة تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة، سواء في الضفة أو غزة، إذ أن غياب قيادة حركة تحرر وطني، وترهل البني الوطنية الفلسطينية يجعل من قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة أمراً غاية الصعوبة، أو يحتاج إلى ظروف فلسطينية وعربية ودولية أخرى.

والقصد أن تعذّر انتفاضة ثالثة لا يقلل من الأهمية الكفاحية للهبات الشعبية، أو للموجات الانتفاضية، المتفرقة، رغم محدوديتها في الزمان والمكان والوسائل، ولا يقلل من الروح الوطنية للفلسطينيين، ولا من استعدادهم الدائم للتضحية في سبيل حقوقهم، ولكنه يفيد بأن الفلسطينيين الذين اجترحوا الانتفاضة الشعبية الأولى، التي كانت الأكثر تعبيراَ وتمثلا لخبراتهم النضالية، ولإمكانياتهم، وللواقع المحيط بهم، هم الأكثر قدرة على تحديد ما يمكن لهم فعله، بمعزل عن استدعاء هذا الفصيل أو ذاك لانتفاضة ثالثة، وبغض النظر عن الروح الشعاراتية والرغبوية المهيمنة في خطابات قادة الفصائل، بين فترة وأخرى، بحسب المناسبة.

ولما كان من البديهي أن هكذا دعوات تصل إلى أصحابها، أي إلى الجماهير المدعوّة، فإن عدم الاستجابة يصدر من أحد احتمالين، أو من كليهما، الأول، وهو أن الجماهير المعنيّة لا ترى أن الانتفاضة هي الشكل الأنسب في الظروف الحالية. والثاني، هو أن أصحاب هذه الدعوات لم يعد أحد يسمع لهم، أو لم يعد لديهم صدقية بين شعبهم. وطبعا فإن هذا وذاك يؤكدان أن أصحاب هذه الدعوات ليس فقط غير مدركين لتراجع مكانتهم، وتآكل دورهم في العمل الوطني، وإنما غير مدركين، أيضاً، للمتغيرات والتحولات الحاصلة في ظروف الفلسطينيين، لاسيما لجهة التعقيدات التي خلقتها إسرائيل في الضفة الغربية.

في كل الأحوال فإنه لا يمكن البتّة تفسير هذا الأمر بتراجع الروح الوطنية عند الفلسطينيين، ذلك إن الهبّات الشعبية تؤكد استعداد الفلسطينيين للتضحية والصمود والمقاومة، لكن وفقاً للإمكانيات الذاتية، ووفقاً لرؤيتهم للطريق الأجدى، الذي يمكن أن يستنزف إسرائيل بدل أن تستنزفهم هي، كما يحصل في المواجهات المسلحة، والذي يمكن أن يكشفها أمام العالم كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، بدل أن يمكّنها من عرض الفلسطينيين كأنهم جيش يقف في مواجهة  جيش آخر.

على ذلك ثمة عاملان يحددان، أو يفسران، عدم التحول إلى انتفاضة ثالثة، أولهما، أن الشرط الذاتي غير متوفر في هذه الظروف، بعد كل ماجرى، ذلك أن الشعب الفلسطيني كان زَجّ خلال الانتفاضة الثانية (2000/2004)، في ما عرف بـ “انتفاضة” الأقصى، بكل إمكانياته وطاقاته، سيما أن الحديث تعلق بمواجهات مسلحة، ما عرّض الفلسطينيين لاستنزاف كبير، في إمكانياتهم البشرية والمادية.

والمشكلة أن الحركتين القائدتين (فتح وحماس) لم تفعلا شيئا، آنذاك، في سبيل ترشيد استهلاك طاقة الشعب الفلسطيني، ولم تعملا على تنظيم كفاحه، في خضم تنافسهما على القيادة والسيطرة، وتركتا الأوضاع تخرج عن السيطرة، وتسير نحو الفوضى والفلتان. وبنتيجة كل ذلك فقد دفع الشعب الفلسطيني من دمه ومعاناته وتضحياته وعمره، الكثير، من دون أن يترجم ذلك إلى انجازات سياسية ملموسة.

الأنكى من ذلك، أن وضع الفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات التي بذلت فيها، أضحى أسوأ بكثير مما كان قبلها. فالفلسطينيون، الذين كانوا قبل عام 2000 يتحركون حتى في مناطق 48 (إسرائيل)، باتوا، بعد الانتفاضة الثانية، محصورين في معازل، في الضفة الغربية، وبات مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة في سجن كبير، مع حصار مشدد منذ العام 2007. فوق ذلك فقد باتت الضفة الغربية مقطعة الأوصال، بالجدار الفاصل والحواجز العسكرية الإسرائيلية والنقاط الاستيطانية العشوائية، أي أن الفلسطينيين أضحوا غير قادرين، من الناحية الذاتية، على ولوج انتفاضة جديدة، بالطريقة المتعارف عليها، فثمة تعب واستنزاف كبيرين، وأيضا ثمة إحباط من الواقع السياسي المحيط بهم راهنا.

العامل الثاني، أن مشكلة الفلسطينيين، إزاء أي انتفاضة جديدة، أن وضعهم ليس سيئا في مواجهة إسرائيل فحسب، وإنما هو أسوأ، ربما بصورة أكبر، بما يتعلق بأوضاعهم وأوضاع حركته الوطنية، أيضا. هكذا، فخلال المرحلة الماضية تراجع وزن الفصائل في المجتمع الفلسطيني، وبات الفلسطينيون في غربة عن القوى المهيمنة، التي تعمل بوسائل المحسوبية والزبائنية، أكثر مما تعمل بوسائل الإقناع والنموذج والصدقية الأخلاقية والنضالية. أيضا، فإن الفلسطينيين يدركون بأن الممارسات السلطوية للقوى المهيمنة، وتخلّف إدارتها، إن في مجال إدارة كفاحها ضد إسرائيل، أو في مجال إدارتها للوضع الفلسطيني، سواء في الضفة أو غزة، بات وبالًا عليهم وعلى حركتهم الوطنية، وعلى نظامهم السياسي، سيما مع انقسام الكيان الفلسطيني، بين سلطتين ومرجعيتين وقيادتين (فتح في الضفة وحماس في غزة).

ولاشك أن هذه الأوضاع بدورها أسهمت في إشاعة مشاعر الإحباط عند الفلسطينيين، بخاصة وهم يشهدون كيف تراجعت صدقيه قضيتهم، في المجالين العربي والدولي، بعد أن تحولت حركتهم الوطنية، من حركة تحرر وطني، إلى مجرد سلطة تتصارع فيما بينها، بدل مصارعة المحتل الإسرائيلي، وتلهث وراء المساعدات والمنح الخارجية، محولة القضية الوطنية إلى مجرد قضية مساعدات ورفع حصار.

لكن، وبغض النظر عن موقف الجماهير المدعوة، ثمة أسئلة تطرح نفسها على الجهات الداعية، ومثلاً: هل بات النضال الشعبي ضد الاحتلال بحاجة إلى كبسة زر، أو إلى إذن، أو إلى بيانات أوامرية؟ ثم ماذا أعدت الجهات الداعية من أجل الانتفاضة، وما هو برنامجها، وما غايتها؟ وأخيراً، ماهي الدروس التي استنبطتها تلك القيادات من تجربتي الانتفاضتين الأولى والثانية؟

القصد أن الجماهير المطالبة بالانتفاض، وتقديم مزيد من التضحيات، تستحق نوعا من كشف الحساب، عما فعلته أو لم تفعله، الفصائل الفلسطينية المهيمنة، للنهوض بأوضاعها، ونفض التكلس عن بنيانها، وتقديم مصلحة الوطن على مصلحتها الفصائلية، وتعزيز ارتباطها بمعاناة الناس، وفهم ظروفهم وإدراك مصالحهم. أما القيادات التي لاتلق بالا لمعاناة الناس، وظروفهم الحياتية، ومجرد فقط إنها تطالبهم بالانتفاضة والمقاومة وبذل المزيد من المعاناة والتضحيات، لنوع من مزايدات، أو لإثبات مكانتها السلطوية، بغض النظر عن الجدوى السياسية لذلك، فهي لاتستحق من الجماهير إلا اللامبالاة، وهذا ما تفعله تلك الجماهير، عن قصد أو من دونه، على ما يبدو.

وبديهي فإن هذه الجماهير تواصل نضالها ضد الاحتلال، بوسائلها الخاصة، وبالإمكانيات المتاحة لها، ووفق الهباّت الشعبية، وهي التي كانت ابتدعت نموذج الانتفاضة الشعبية (أو انتفاضة الحجارة 1987ـ1993) والتي كانت أكثر الأشكال الكفاحية مقاربة لظروف الشعب الفلسطيني وامكانياته.

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]