ماجد كيالي يكتب: 57 عاما على انطلاقة «فتح»
مضى على انطلاقة حركة “فتح” 57 عاما، أي أنها قاربت ستة عقود، احتلت في معظمها، لاسيما في الخارج، وقبل إقامة السلطة (1994) مكانة القيادة في الحركة الوطنية الفلسطينية وعند معظم الفلسطينيين. لكن هذه الحركة بدءاً من عقدها الخامس، بدأت تفقد مكانتها تلك، ما تجلّى في خسارتها الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، ثم خسارتها لقطاع غزة (2007)، لصالح حركة «حماس»، التي باتت تنازعها القيادة والمكانة في السياسة والمجتمع الفلسطينيين، لا سيما مع انقسام النظام السياسي بين سلطتي الضفة وغزة.
الآن وبغض النظر عن العوامل الذاتية أو الموضوعية التي أفضت إلى تراجع دور «فتح»، وانحسار مكانتها، وتحديد المسؤولية عن كل ما حصل، ثمة سؤالان لا بد من الإجابة عليهما، الأول، هل مازال ثمة حاجة إلى حركة مثل «فتح»؟ وثانيهما، هل يمكن استنهاض هذه الحركة؟
يمكن استدراك السؤالين المذكورين، في البداية، بالتأكيد على أن الحركات او الأحزاب السياسية لا تبقى على حالها إلى الأبد، مثلها مثل كل الظواهر المجتمعية والسياسية، إذ هي تنشأ وتشبّ وتزدهر في مراحل معينة، وفي ظروف محددة، ثم تتعرض لأعراض التآكل والذبول والأفول في مراحل وظروف أخرى، وهذا ما حصل للأحزاب الشيوعية والقومية والإسلامية وغيرها، وهو ماحصل حتى لمعظم أحزاب الحركة الوطنية الفلسطينية، التي برزت في الثلاثينات، وانتهت مع النكبة (1948). والمعنى من ذلك أن حركة فتح بدورها، باتت تقف بين مسارين، فإما الاستمرار والنهوض أو الانحسار والأفول، بيد إن أي تموضع لتلك الحركة في اتجاه أي من المسارين يعتمد على كيفية إدراكها لهذا الواقع، وعلى ما تفعله، أو لا تفعله، لسلوك أي من هذين الطريقين.
ومع التأكيد بأن مواقف هذه الحركة، وطريقة عملها، وخياراتها الكفاحية والسياسية، طوال تاريخها، ومع كل التحديات والتحولات التي تعرضت لها، لم تكن منزّهة عن الأخطاء، والثغرات، والمخاطر، إلا أنها ما زالت تحظى على شعبية واسعة عند الفلسطينيين، وما زالت موضع ثقة أو أمل بالنسبة اليهم.
وفي الحقيقة فإن هذا الوضع، الذي تتمتع به فتح، يتغذّى من أسباب عديدة، ضمنها، أولاً، أن هذه الحركة هي التي شكّلت عمود الهوية الوطنية الفلسطينية، ورافعة النهوض الوطني الفلسطيني، منذ البدايات. وثانياً، لأن هذه الحركة بدت الأكثر شبها بشعبها، والأكثر قرباً لمفاهيمه ومداركه السياسية، لا سيما مع كونها حركة وطنية تعددية متنوعة تضم أطيافاً من مجمل التيارات السياسية، وليست مجرد حزب أيدلوجي لتيار بعينه. ثالثاً، لقد عرفت «فتح»، طوال تاريخها، بأنها الأكثر حرصاً على استقلالية القرار الفلسطيني، لا سيما أنها خاضت الكثير من المعارك في سبيل ذلك. رابعاً، لا يوجد في الحقل السياسي الفلسطيني، أو لم يتشكّل بعد، أي بديل مقنع عن «فتح»، مع ملاحظة التراجع الكبير في دور ومكانة الفصائل الأخرى (الجبهات). خامساً، إن حركة «حماس»، على شعبيتها، تبدو ممثلة لتيار سياسي وأيديولوجي بعينه، لا سيما أنها لم تنجح في اختبار السياسة والقيادة، فهي لم تثبت نفسها كنموذج أفضل في إدارتها للسلطة في غزة، كما أنها عادت، ولو بمصطلحاتها، الى مربع «فتح»، لجهة قبولها بخيار حل الدولة في الضفة والقطاع وانتهاج المقاومة الشعبية والتهدئة إزاء اسرائيل.
ويستنتج من ذلك أن الحقل السياسي الفلسطيني، وبصورة موضوعية، ما زال بحاجة ماسة الى حركة وطنية عريضة مثل «فتح»، سواء كان اسمها «فتح»، في حال استطاعت تلك الحركة استنهاض ذاتها، وهو الوضع الأفضل والأسهل، أو كان لهذه الحركة اسماً آخر في حال لم تستطع «فتح» استنهاض ذاتها.
هذا يفيد بأن “فتح” في حال أرادت الاستمرار والنهوض واستعادة مكانتها، معنية بمراجعة طريقها وخياراتها السياسة بطريقة نقدية ومسؤولة، ونفض الترهل والجمود في بناها وعلاقاتها الداخلية، وتجديد شبابها، وإعادة الاعتبار لذاتها كحركة تحرر وطني.
وبشكل أكثر تحديداً، فإن ما كان يصلح في «فتح» القديمة، أو فتح البدايات، أو فتح ما قبل إقامة السلطة، من خطابات سياسية وأشكال عمل وبنى لم يعد ينفع في الظروف الجديدة، ومع كل التطورات والتحولات السياسية الحاصلة، إن في المجتمع الفلسطيني، او على صعيد الصراع مع اسرائيل.
والحال من الواضح بأن من أسباب ضمور «فتح»، وتراجع دورها ومكانتها، له علاقة بظهور أعراض الشيخوخة عليها، في مقابل شبابية «حماس»، والمشكلة أن الشيخوخة في حالة «فتح» لا تقتصر على العمر، وإنما هي تطاول تقادم بناها وأشكال عملها، وتراجع اهليتها النضالية، لا سيما بعد تحولها الى سلطة، كما إن الأمر يتعلق بشكل أساسي بافتقاد فتح للميزات التي اتسمت بها في البدايات.
هكذا، فمن استعراض واقع «فتح» اليوم، يمكننا ملاحظة أنها تقف في مواجهة مشكلات عديدة، فهي تحولت من حركة تحرر وطني إلى سلطة على شعبها، وهي افتقدت طابعها، أو روحها كحركة وطنية تعددية متنوعة، وباتت تمثل طيفا سياسيا معينا، أو طيفا يمثل الرئيس، ثم إنها افتقدت روحها النضالية بتحولها إلى حزب للسلطة ثم إن فتح التي انطلقت باسم الشعب الفلسطيني كله باتت تتصرف وكأنها مشروع انطلق من اجل جزء من الشعب في جزء من الأرض مع جزء من الحقوق.
على ذلك بات من الملحّ أن تدرك قيادة «فتح» هذا الواقع، وأن تستجيب إلى تحدياته، وأن تعمل على تغييره بطريقة حاسمة، وضمن ذلك تغيير البنية القيادية لهذه الحركة، واستعادة روحها كحركة تحرر الوطني تشبه شعبها وتتماثل مع قضيته، وإلا فإن هذه القيادة ستسجّل في التاريخ بأنها المسؤولة عن أفول تلك الحركة التي استنهضت الشعب الفلسطيني ووضعته على الأجندة الدولية والعربية منذ منتصف السبعينيات، لكنها بعد ذلك لم تضف شيئا بل إنها نكصت عن كل تلك الإنجازات لصالح سلطة ضعيفة، ومقيدة، تحت سلطة الاحتلال.
