رغم التحذيرات الأمريكية السابقة والمستهجنة، عن الحاجة إلى حوالي 30 عامًا لهزيمة «داعش»، ورغم التقارير التي تحدثت عن استعدادات التنظيم الدؤوبة للمعركة داخل الموصل، بما في ذلك الألغام والمفخخات وإغلاق الطرق وحفر الشوارع، ورغم أن الموصل هي معقل التنظيم الأكبر وعاصمته في العراق؛ إلا أن ما يشغل الدوائر السياسية والإعلامية ليس المعركة بحد ذاتها، وإنما مرحلة ما بعد المعركة.
وتعد الموصل أكبر ثاني المدن العراقية، بعد بغداد من حيث الأهمية السياسية والسكنية، لذلك ستتغير الأوضاع كثيرا في العراق بعد تحرير الموصل، مثلما تغير الواقع السياسي في العراق عقب استيلاء داعش على الموصل في يونيو/ حزيران 2014،.
ونجد أن المناقاشات المطروحة الآن لا تدور معظمها حول عملية تحرير الموصل نفسها من يد داعش، خاصة مع كثافة المشاركة وقوة العتاد للمعركة، بل تدور المناقاشات حاليا حول النزاعات المستقبلية فيما بعد تحرير الموصل، باعتبار أن ذلك سيحدد إلى حد كبير دورالتنظيم فيما بعد المعركة على مستويين في غاية الأهمية .. هما: التركيبة الديموغرافية في الموصل، والتوازنات السياسية في العراق ككل.
التوتر العراقي – التركي
تفجر الخلاف بين الحكومة المركزية في بغداد والحكومة التركية، على مدار الأيام القليلة الماضية، قبل أن تبدأ معركة تحرير الموصل، وذلك على إثر تجديد البرلمان التركي مذكرة التفويض لقواته المسلحة بالقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود (سوريا والعراق) دون أي تغيير في القوات المتواجدة في المعسكر الذي أقامته تركيا لتدريب البشمركة العراقية والسكان المحليين للموصل (من العرب والتركمان والأكراد) في بلدة بعشيقة الواقعة 12 كم شمال شرق الموصل؛ الأمر الذي يمكن تفسيره في إطار الضغط على تركيا لعدم المشاركة في معركة الموصل.
وبرزت مخاوف عراقية من عمل تركيا ـ التي تحارب حزب العمال الكردستاني في جنوب تركيا وشمال العراق ـ على أن تأخذ من مشاركتها في عملية تحرير الموصل، ذريعة لاستمرار وجودها في شمال العراق ، خاصة في منطقة «بعشيقه» التي تدرب فيها تركيا قوات عراقية وطوائف من الشمال العراقي، مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا، تريد تدعيم تواجدها في الشمال السوري، بالتواجد في الشمال العراقي.
لذلك هدد رئيس الوزراء العراقي حيدرالعبادي بـ«حرب إقليمية» ورفع شكوى لمجلس الأمن الدولي ما لم تسحب تركيا قواتها، كما عبر بوضوح عن أنه «لن نسمح لتركيا أبدًا بالمشاركة في معركة الموصل»، بينما ارتفعت حدة الردود التركية بعد محاولات الاحتواء الأولى على لسان رئيس الوزراء التركي الذي نصح نظيره العراقي بالعمل على حقن دماء العراقيين، وأن يتعلم «كيف تكونون دولة قبل أن تنتقدوا تركيا» كي لا تتحول تصريحاته إلى «فكاهة».. على حد قوله.
ويؤكد التعالي التركي في التعامل مع العراق المخاوف من الأطماع التركية في شمال العراق، سواء بحجة مكافحة التنظيمات الكردية التركية، أو دعم تواجدها الاستراتيجي في المنطقة، خاصة مع مساعيها للتمدد في الشمال السوري.
ويضاف إلى ذلك زيادة الهواجس العراقية حول مطامع تركية مفترضة في الموصل التي ترى تركيا أنها «أُخذت» منها فيما بعد الحرب العالمية الأولى بدون وجه حق، وما زال لها حق فيها وفق اتفاقية أنقرة 1925 (بأخذ رأيها في أي نظام يُختار لها)، وباعتبار التواجد التركماني فيها وفي جوارها.
إيران وزيادة النفوذ
في ظل غياب أي قوات برية للتحالف الدولي والحاجة الملحة لقوات برية محلية، تتحول معركة الموصل إلى أشبه بلعبة الشطرنج الحذرة والبطيئة التي تتعقد فيها التحالفات والمواجهات باعتبار أن لكل طرف أكثر من خصم وحليف، وتعتمد كل خطوة بشكل كبير على خطوات الخصم السابقة عليها.
فبالإضافة للتحركات التركية، نجد أن إيران تريد، عبر حكومة العبادي، أن تدور المعركة تحت قيادة التحالف والحكومة المركزية حصرًا، وبحيث تشترك بها قوات الحشد الشعبي و«قوات حماية شنكال» الإزيدية التي شاركت قبلاً في معركة سنجار، دون دور كبير لتركيا وقوات البارزاني. مؤخرًا،
ولكن التخوفات من أن إيران تسعى لتأجيج الطائفية في الموصل حتى تمد نفوذها الشيعي في شمال العراق، والعمل على مد جسور التقارب أكثر مع الأكراد .
ترقب كردي
يدير مسعود البارزاني رئيس إقليم شمال العراق حسابات دقيقة بخصوص شبكة تحالفاته ومنافساته، فيرغب بالمشاركة في المعركة بقواته المتواجدة على مقربة من الموصل، ويبدو أقرب إلى تركيا من الحكومة المركزية في بغداد وداعمًا لمشاركة من تدربهم أنقرة من بشمركة وحشد وطني في المعركة، ومتعاونًا مع منافسه جلال الطالباني الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، في مواجهة حزب العمال الكردستاني وحركة التغيير الكردية، ونجد أن الأكراد ينظرون لتحقيق مكاسب سياسية بعد معركة تحرير الموصل ، تعطيهم نفوذا وعلاقات دولية أكثر ووضعا عسكريا في شمال العراق، باستغلال دورهم في وقف تقدم داعش.
ما بعد فراغ داعش
أمام الواقع الحالي والتنافس بين الدول المجاورة للعراق، بل والمكونات الداخلية العراقية، نجد أن مستقبل الموصل، لا ينظر إلى المخاوف المتوقعة من توجه تنظيم داعش إلى تنفيذ عمليات انتقامية، في الداخل العراقي، بعد تفريقه من معقله في الموصل، خاصة بعد بنائه شبكة انفاق ممتدة مع مدينة «الرقة» السورية، مما يعنى أو يرجح أن تمتد المعركة بعد الموصل إلى الرقة وداخل الأراضي السورية.
ولكن نجد أن، حل خلافات ما قبل المعركة، بين المكونات الدولية والإقليمية، لا يعني انتفاءها في مرحلة ما بعد داعش. بالعكس تمامًا، فثمة الكثير من مساحات التنافس والمواجهة والاختلاف على «الرقعة» العراقية، أولًا في مرحلة ملء فراغ داعش، وثانيًا بخصوص النظام السياسي في العراق بعد استتباب الأمر للحكومة، وثالثًا فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية التركية في العراق، سيما شماله، في ظل الخصومة الشديدة مع الميليشيات الكردية والشيعية، ورابعًا فيما يختص بمعسكر «بعشيقة» ومستقبله وإدارته وأهدافه.
ورغم أننا نتوقع جدلًا كبيرًا حول مستقبل معسكر بعشيقة بعد زوال مسوغاته المحصورة بمواجهة داعش، إلا أن سيناريو المطالبات التركية بالموصل يبقى مستبعدًا جدًا في ظل الظروف الحالية، لكن الأحداث التي شهدناها في السنوات الأخيرة أثبتت مرة تلو المرة أنه لا مستحيل ولا حدود للمفاجآت في هذه المنطقة التي يعاد تشكلها وتشكيلها من جديد.
