من ذاكرة فلسطين: «أحمد حلمي» باشا..رئيس «حكومة عموم فلسطين»
انعقد المجلس الوطني لعموم فلسطين في غزة في 30 سبتمبر/ أيلول 1948 برئاسة أمين الحسيني، وأقر المجلس سلسلة من القرارات بلغت ذروتها في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1948 بإعلان استقلال كامل فلسطين، وعاصمتها القدس.. واعلنت حكومة عموم فلسطين ،الولاية القضائية على فلسطين بأكملها.
إذا كان الوطن العربي بأسره قد خضع تحت سلطات الاحتلال والانتداب (البريطاني والفرنسي، والايطالي في ليبيا) سنوات طويلة منذ بدايات القرن الماضي، وحتى ما بعد منتصف القرن ـ تقريبا ـ إلا أن فلسطين قد تجاوزت المعاناة مع الانتداب والاستعمار إلى سنوات الاحتلال الراهنة ـ وفقا لتصنيفات مبادىء العلوم السياسية ـ فالانتداب كما نص عليه ميثاق الامم المتحده هو تمكين دوله تدعى مساعده البلدان الضعيفه المتأخره على النهوض وتدريبها على الحكم حتى تكون قادره على الاستقلال بنفسها وتحكم نفسها .. أما الاحتلال هو عمليه استيلاء جيش دوله ما على جميع او بعض اراضى دوله اخرى خلال فتره حرب او غزو أو ما بعد الحرب، وهو احد أشكال الاستعمار، وبالتالي اتسم الاستعمار بأنه مؤقت وأنه يهدف للإستيلاء على الثروة، اما الاحتلال فهو يستهدف الثروة والثقافة معا، وعلى عكس الاستعمار دائم.
«حكومة عموم فلسطين»..أول حكومة فلسطينية قبل 70 عاما
في عام 1917 سقطت القدس تحت الاحتلال البريطاني المباشر، بعد أن سيطر الغرب على المدينة بشكل غير مباشر لمدة حوالي نصف قرن، ولاقى هذا الاحتلال تشريعا دوليا بعد ثلاث سنوات عبر نظام «الانتداب» الذي دام حتى عام 1948 عندما أعلنت بريطانيا عن نيتها التخلي عن انتدابها على فلسطين، و أحالت قضيتها إلى الأمم المتحدة..وأدركت القيادة الفلسطينية عندئذ، ممثلة آنذاك بالهيئة العربية العليا لفلسطين بزعامة الحاج أمين الحسيني، أهمية التهيؤ لهذا الحدث واستباقه بإيجاد إطار دستوري يملا الفراغ الذي سوف ينجم عن انتهاء الانتداب البريطاني وكان هذا الإطار هو إقامة حكومة عربية فلسطينية..وتم تشكيل أول حكومة فلسطينية ( حكومة عموم فلسطين). برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي «باشا» ـ سياسي واقتصادي فلسطيني ـ وضمت حكومة عموم فلسطين كلا من أحمد حلمي عبد الباقي رئيساً، وجمال الحسيني، ورجائي الحسيني، وعوني عبد الهادي*، وأكرم زعيتر، والدكتور حسين فخري الخالدي، وعلي حسنة، وميشال أبكاريوس، ويوسف صهيون، وأمين عقل.
أول إعلان رسمي بـ «استقلال جمهورية فلسطين» وعاصمتها الفقدس
وانعقد المجلس الوطني لعموم فلسطين في غزة في 30 سبتمبر/ أيلول 1948 برئاسة أمين الحسيني، وأقر المجلس سلسلة من القرارات بلغت ذروتها في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1948 بإعلان استقلال كامل فلسطين، وعاصمتها القدس.. واعلنت حكومة عموم فلسطين ،الولاية القضائية على فلسطين بأكملها، واعتمدت رسميا «علم» الثورة العربية، وكان يستخدمه القوميون العرب كـ «رمز» منذ عام 1917، وأعادت إحياء جيش الحرب المقدسة بهدف معلن هو تحرير فلسطين.. وقام الوزير جمال الحسيني بجولة عربية لتقديم إعلان الحكومة إلى كافة الدول العربية والإسلامية وجامعة الدول العربية ..وكان نص مذكرة الإعلان:
- «أتشرف بإحاطة معاليكم علمـًا بأنه بالنظر لما لأهل فلسطين من حق طبيعي في تقرير مصيرهم واستنادًا إلى مقررات اللجنة السياسية ومباحثاتها ، تقرر إعلان فلسطين بأجمعها وحدودها المعروفة قبل انتهاء الانتداب البريطاني عليها دولة مستقلة وإقامة حكومة فيها تعرف بحكومة عموم فلسطين على أسس ديمقراطية ، وإني أنتهز هذه المناسبة للإعراب لمعاليكم عن رغبة حكومتي الأكيدة في توطيد علاقات الصداقة والتعاون بين بلدينا».
رسم حدود فلسطين الدولية مع دول الجوار..ودستور مؤقت للدولة المستقلة
وكأن الماضي، صورة للواقع العربي الراهن، وبالرغم من تفهم الحكومات العربية ضرورة قيام الحكومة الجديدة وموافقتها على ذلك، إلا أن دولة عربية اعترضت، واخرى تحفظت !! وقد حاولت الجامعة العربية الوساطة، وقام رئيس الوزراء لبنان، رياض الصلح، بالسعي لرآب الصدع.. ولذلك قررت الهيئة العربية الفلسطينية العليا والحكومة الجديدة، الدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني لتأكيد شرعية الحكومة وإظهار تأييد الشعب العربي الفلسطيني لها. وقد أنعقد المؤتمر في ا أكتوبر/ تشرين الأول 1948 في غزة برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني، وحضرته جمهرة كبيرة من الشخصيات الفلسطينية. وقد تم فيه الإعلان عن شرعية الحكومة الجديدة، كما تقرر إعلان استقلال فلسطين وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة، ورسم الإعلان حدود فلسطين، وهي الحدود الدولية مع سورية ولبنان شمالاً، ومع شرق الأردن شرقاً، والبحر المتوسط غرباً، ومع مصر جنوباً، وشجب المؤتمر محاولة اليهود إنشاء دولة في الأراضي المغتصبة، وأقر أيضاً دستوراً مؤقتاً لفلسطين، وعقد قرض لا يزيد عن خمسة ملايين جنيه.
إصدار أول جواز سفر فلسطيني
ومع تمثيل فلسطين في الجامعة العربية، نجحت الدول العربية الداعمة لحكومة «عموم فلسطين»، في تثبيت أحمد حلمي ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية بلقبه الذي عرف به حتى وفاته في 1963 (رئيس حكومة عموم فلسطين)، وخلال تلك السنوات (1963-1950) كافح أحمد حلمي باشا للحفاظ على وجود كيان فلسطيني بأي شكل وأي ثمن، في وقت انقسمت فلسطين بين دولة الاحتلال«إسرائيل» و «الضفة الغربية» للمملكة الأردنية الهاشمية. وعلى رغم اقتصار دعم الجامعة العربية له على مبلغ رمزي (نحو خمسة آلاف جنيه مصري سنوياً)، إلا أن أحمد حلمي عمد إلى تمويل «حكومة عموم فلسطين» بإصدار الجواز الفلسطيني الذي ساعد اللاجئين الفلسطينيين في أصعب الفترات، إلى أن اتفقت الدول العربية على منعه وإصدار وثائق سفر للفلسطينيين خاصة بها، كما أنه ساعد اتحاد طلبة فلسطين في القاهرة، الذي ضم الجيل القيادي اللاحق للفلسطينيين برئاسة ياسر عرفات، وغيره من المنظمات والهيئات الفلسطينية.
زعيم الاقتصاد الفلسطيني
كانت فلسطين آنذاك تواجه تحدياً اقتصادياً وسياسياً يفوق طاقة الفلسطينيين، وفي هذه السنوات المصيرية برز أحمد حلمي في المجال الاقتصادي ـ المصرفي أولاً، حيث بدأت الصحافة الفلسطينية تطلق عليه منذ العام 1931 «زعيم الاقتصاد في فلسطين» و «طلعت حرب فلسطين»، بعدما قام في 1930 بمشاركة عبدالحميد شومان في تأسيس «البنك العربي»، وتولي إدارته خلال الفترة 1930 ـ 1936، وهي الفترة التي ازدهر فيها البنك وأسّس فروعه في فلسطين والأردن، ثم بتأسيس المصارف والشركات الأخرى («البنك الزراعي»، و «البنك الصناعي»، و «بنك الأمة العربية»، و «صندوق الأمة»..الخ)، التي هدفت إلى مساعدة الفلاحين الفلسطينيين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضي فلسطين،أمام اندفاع الشركات اليهودية بمساعدة السماسرة، على شراء مزيد من الأراضي بأسعار لا تقاوم. ما رشّحه إلى أن يُنتخب عن المستقلين في القيادة الجديدة للشعب الفلسطيني التي جاءت تحت ضغط الشارع (ثورة 1936) بمسمّى «اللجنة العربية العليا لفلسطين». ومع تطورات قضية فلسطين خلال السنوات اللاحقة وانتقالها إلى الجامعة العربية التي تأسّست عام 1945، انتُخب أحمد حلمي ضمن القيادة الفلسطينية الجديدة التي شكّلتها الجامعة عام 1946 بمسمّى «الهيئة العربية العليا لفلسطين»