نقد فني| الاختيار.. إجباري

تسليم الأرض من جيل إلى جيل مثل تقاليد شفهية ينقلها الأجداد بإخلاص إلى الأحفاد.. ولا يكاد يغير فيها ولا كلمة واحدة.

“الاختيار” دراما تعيد الاعتبار لفئات تتحمل مسؤولية وطن موجوع، وتعارك بالقوة الإنسانية خطايا غير جائز غفرانها.

الاختيار مسلسل من النوع الذي يبقى، يحملك إلى عالم ربما لم تر يوما سوى قشوره، يظهر ما تخفيه الأعماق وخفايا الأمور، ليست الخيانة إشكالية جديدة إنما النص مختلف عن مناخ النذالة، ناقش أمزجة الشخصية والبعد النفسي للطفولة، ورغم علمنا أي مصير ينتظره، يدفع المشاهد نحو الترقب.

إن الرمز القديم للأفعى التي تعض ذيلها مناسب للإرهابي هشام عشماوي. رائحته فاحت وانجذب الذباب، روحه بحاجة إلى أن ترتعش حتى تستيقظ، المنسي ينذره مغبة تصليب رأيه وأخذ يداوي خيانة القدر، ويحاول تقبله ثم يحوله، رغم علمه بما يخفيه قلبه وتفضحه مواقفه.

عشماوي كغيره، يولد حر، وعندما يختار العبودية فهو إذن أحمق، يستجيب لمجموعة مغريات لم يفي بها الإرهاب، مثل كلب تلوح له بقطعة من العظم حتى إذا جاءها وجدها حجرا. ثمة من سيرى في الاختيار اتجاه إلى مثالية بل هو الجانب الزائف من هذا النوع من الناس وبشاعتهم الإنسانية ونشر غسيلهم المقزز.

المنسي أوقظ من أحلام التدريس ليلتحق بالجيش، شد عوده، ينظر للعالم برصانة ليشهد حقائقه الواقعية. شخصية من حياتنا الطافحة بالاغتيالات والعامرة بالأبطال، قائد جيش باسل له الشجاعة الذهبية، مخلوق مما وراء الطبيعة، يهرع نحو فرائسه، يلتهمهم في لقمة واحدة بحجم الغل، كأنه ينتظر استشهاد مؤجل لا فكاك منه، يبدو دائما كالخارج لتوه من ساحة معركة لكنه لا يلقي سلاحه ولا ينتظر الاستسلام والاحتفاء بالنصر، يستعد لآخرى، يقدم أفضل ما لديه والقنوط ليس قدره.

الانتصارات العسكرية وحدها لا تكفي، فالخرف كثير، يرفع الضغط ويتلف أعصاب لم تعد تتحمل، وكان لا بد من مواجهة فكرية بمسلسل ذو نفس ملحمي، يرشق بحجارته ماضيهم المصنوع من زجاج، يحاكي امتداد العنف من الأزل إلى مأساة اللحظة، يعريه وبكشف كذبه وفشله، ومحاولاتهم المرتبكة للملمة آثار الخيبة، بعدما اعتادوا على الاستمتاع بوضع أنفسهم في موقف الضحية، وحاليا يعضون الأصابع ندما.

الإيقاع التمثيلي مضبوط، أحمد العوضي أمام دوره الفارق في رمضان 2020، أكثر أدواره دهاء، محترف في جعلك تكرهه وتنفر منه، اتقان هائل لشخصية النذل المحاضر بالعفة مع بشاعة الداخل والغايات القذرة، والدين شماعته، شخص غيور عينه شريرة تنذر بالسوء.

بيتر ميمي يصوغ الشخصيات بتأني، يختار للمنسي رجلا من قماشة أمير كرارة المفصل تماما على قياسه. قدرته على توظيف جسمانيته. رمى وراءه شخصية الماضي ضابط الشرطة سليم الأنصاري لم يلجأ إلى إعادة استعمالها. وإيهاب فهمي هو الأنسب لدور أبو مصعب الزرقاوي يترك الشخصية أمام تشوهاتها، وضيوف الشرف كلاهم يكمل الآخر، ومعا، يقدمون توليفة موفقة.

هذا ملعب الدكتورين بيتر ميمي وباهر دويدار، يتنقلان  فيه بانسياب منذ مسلسل كلبش، وعلى الشاشة حركة مستمرة متواصلة والتوتر الممسوك والفلاشباك مضبوط والمشاهد لا تصيب بالملل.