هذا ما كتبه مارسيل خليفة عن فنان الشعب سيد درويش.. مطالبا بتحويل بيته لمتحف
كتب اللبناني مارسيل خليفة، أحد أهم الموسيقيين العرب الملتزمين بالقضية الفلسطينية، عبر فيسبوك اليوم الإثنين، متذكرا فنان الشعب وشيخ الملحنين المصريين سيد درويش.. وهذا ما كتبه مارسيل عن سيد درويش.
في فجر 17 آذار سنة 1892 عرف كل أهالي حيّ «كوم الدكّة» في الإسكندريّة أن الأسطى درويش البحر، أبو البنات، وصاحب دكانة نجارة صغيرة قد رزق بطفل من زوجته الحاجة «ملوك» وقد اسماه «سيّد».
وشبّ سيّد درويش في الحيّ والتحق بالمعهد الديني وحفظ القرآن ثمّ لم يلبث أن توفى أبوه، فوجد نفسه مسؤولاً في سنّ مبكرة عن نفسه وعن أسرته، فاشتغل عاملاً نقّاشاً وكان يبعد عنه الشقاء بالغناء. يقف على «السقالة» مع العمّال يطلون واجهات البيوت ونوافذها وتنطلق أغاريده لتطرب الحيّ.
ومن الضوء الخافت فوق أرصفة مقاهي وأركان حيّ كوم الدكّة، ومن حفلات الأفراح والموالد ومقاهي الأسكندريّة بدأ سيّد درويش يلمع.
من الشارع الذي يحمل مدخله لافتة باسمه صعدت وأنيس باتجاه البيت ومررنا بالمقهى الذي اعتاد روّاده الجلوس حول سيّد درويش يستمعون إلى غنائه وعزفه، وهو المقهى ذاته الذي ارتاده ذات يوم احد اصحاب الفرق الفنيّة واستمع اليه يغني ، فضمّه الى فرقة “أولاد عطا” ومعها سافر عن طريق البحر في أول رحلة فنيّة له إلى الشام.
كان ذلك في عام ١٩٠٩ وكان عمره وقتها سبعة عشر عاماً ورغم الخسارة الماديّة كانت الفائدة الفنيّة كبيرة بالنسبة لسيّد درويش وبحكم ولعه الشديد بالموسيقى وقف على احوال الموسيقى العربية في بلاد الشام.
عاد سيّد درويش الى حيّ كوم الدكّة يجلس في المقهى يغني ويعزف ويستعين على القيام بأعباء أسرته بالتجارة في الأثاث.
لكن سرعان ما قرّر العودة الى الشام . وفي عام ١٩١٢ قام برحلته الفنيّة الثانية الى هناك مع فرقة اولاد عطا وكانت هذه الرحلة هي نقطة التحوّل الكبيرة والمهمّة في حياته وأقام هناك سنتين كاملتين، وعندما عاد الى الاسكندريّة كان محمّلاً بأصول هذه الموسيقى.
سنة ١٩١٧ لحّن طقطوقة ” سيبوني يا ناس في حالي / اروح مطرح ما روح ” سمعها منه ” سلامة حجازي ” فطار بسيّد درويش الناشىء فرحاً وقدمه بنفسه الى رواّد مسرحه.
وقد غنّى سيد درويش سنة ١٩١٨ لحن السلام والحب والامل بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وأبان ثورة ١٩١٩ في مصر نرى سيد درويش يضع الاغنيات والأناشيد للثورة.
ثمّ بدأ محمود تيمور ومحمود مراد وأمين صدقي يعرضون عليه موضوعات الروايات التي يؤلفونها او يترجمونها، بديع خيري وبيرم التونسي يضعونها في القالب الزجلي وسيد درويش يترجم كل هذا موسيقى جميلة قوية منعشة.
ولقد ندّد في سنة ١٩٢٢ بالملوك أنفسهم في اللحن الرائع: عشان ما تعلا وتعلا وتعلا/ لازم تطأطِىء تطأطِىء تطأطِىء في أوبيريت العشرة الطيبّة. لحن الشيطان من رواية “البرّوكة”، وهو لحن مذهل يحملك وحده على إحناء الرأس احتراماً لتلك العبقريّة. ولقد لحّن اكثر من عشرين دوراً ولكنها تنطق بالجديد مثل: أنا عشقت، ضيعت مستقبل حياتي ومن مقام الزنجران الذي ابتكره ألّف منه دوره المشهور “في شرع مين” والمقام عبارة عن توليف من ثلاثة مقامات هي “الجهاركاه” و”الصبا” و”الحجاز” وبعده ألّف من المقام نفسه زكريا احمد “هوَّ ده يخلص من الله” وألفّ عبد الوهاب أغنية “اللي راح راح يا قلبي” ١٩١٧ نزح سيد درويش إلى القاهرة وأبدع باكورة إنتاجه عندما قام بتلحين أوبريت “فيروز شاه” لفرقة جورج أبيض.
وهو لم يعمل الاّ حوالي ستّة أعوام ولكنّه ترك ألحان اثنتين وعشرين أوبريت كشهرزاد والعشرة الطيبّة وعددا لا يحصى من الموشحات والأناشيد والطقاطيق: الحلوة دي، زوروني كل سنة مرة، طلعت يا محلا نورها، أهو دا اللي صار، يا شادي الألحان، صحت وجداً، نشيد بلادي، نشيد العروبة، سالمة يا سلامة، إحنا الجنود، قوم يا مصري، الخ.
تراث فنّي وطني ضخم لا يعتبر فخراً لمصر وحدها ولكنّه فخر للشرق العربي كلّه.
وفي ١٥ أيلول ١٩٢٣ مات سيد درويش فجأة في الاسكندريّة مسقط رأسه، مات في الحادية والثلاثين وكانت البلاد يومها تستعد لاستقبال سعد زغلول في عودته من المنفى وفي الاحتفال الذي أقيم لاستقبال سعد كان الافتتاح نشيداً وطنياً وضعه سيد درويش وحفظه الجمهور خصيصاً لهذا الاحتفال.
وكم تمنيت وانا اجول مع انيس في حي كوم الدكّة حيّ سيد درويش ان يتحوّل الى منطقة مغلقة ممنوع دخول السيارات اليها وان تمتد الى منازلها ومحالها التجارية وأرصفتها وشوارعها الهابطة والصاعدة ، يد الترميم والتجميل، فتصبح المنطقة لما فيها ولها عبق تاريخي وحكايات وذكريات ومركز إشعاع ومنطقة جذب مضيئة على مدار الأيام.
وأذهب إلى البروفة لحفلة مكتبة الاسكندرية وانا استعيد في البال اغنية سيد درويش: طلعت يا محلا نورها على خلفيّة صور شارع سيد درويش والميدان الذي يحمل اسمه ايضاً والقهوة التي اعتاد ان يجلس بها يعزف ويغني وأطلال البيت الذي ولد وعاش فيه والنساء يغسلن على الرصيف، يتطفلن بحشريّة فائقة بكل من تجرأ واقترب من ذلك المكان ليزور مسقط رأس فنّان الشعب.
كيف تحوّل هذا المنزل إلى أطلال معزولة في حي كوم الدكة حيث عبق المكان والتاريخ؟
كيف يمكن لحي كوم الدكة القديم أن ينهض وأن ينمو ويزدهر؟
ما سبل تحويله إلى بؤرة مضيئة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، عبر الاتكاء على عراقته وتاريخه وتاريخ من عاشوا فيه؟
الفن يتصدّر السب الكفيلة باستعادة حي كوم الدكة لعافيته، رغم اهمال بيت أشهر من عاش في المكان وآمن بأن ضياع الشخصيّة الوطنيّة مرهون بزوال الهويّة الفنيّة . وتمثلت همومه الذاتية للموسيقى والغناء، في أن البيئة الغنائية السائدة في طفولته وصباه كانت عبارة عن تكريس الانحلال والتخلّف واستمرار سيطرة الاستعمار. غناء بلا هويّة لا يعبّر عن شخصيّة هذا هو الفنان بعد رحيله بعشرات السنين يمكن أن يكون وحده المرتكز والكفيل برد الروح إلى المكان الذي أنجبه، إلى حي كوم الدكة العتيق.
أستعيد تلك المشاهد المرتسمة في عيوني وأحلم بصور جميلة لإرجاء الحي وقد امتدّ اليها التجميل والترميم واحتضنتها صحوة الإحساس بقيم الجمال . وملامح مغايرة يستعيد فيها وجه المكان جماله بفعل عمل يضع العناصر الثقافية والفنية الخاصة بالمكان . وتدفعني تلك الصور في المخيلّة الى التجوّل في أرجاء حيّ كوم الدكّة والمكوث فيه اطول فترة ممكنة ، حتّى لا تؤدّي العشوائيّة التي يعيشها الحيّ من تراكم الاعلانات وصور الاشخاص واللافتات فوق الجدران الكالحة والوجوه التي يعلوها الملل . وأتابع وانا أردّد أغنية سيد درويش : أهو دا اللي صار/ أهو دا اللي كان.
يذكر أن مارسيل قام بجولة فى حي كوم الدكة السكندري مسقط رأس درويش، أول أمس الجمعة، عقب انتهائه من حفل افتتاح مهرجان الصيف الدولي الـ14 بمكتبة الإسكندرية.
وخلال الحفل قال مارسيل «سعيد بوجودي بمدينة سيد درويش، زرت منزله بالأمس، لكنني حزين جدًا على الحالة التى وجدت عليها منزل فنان الشعب»، وطالب القائمين على الثقافة والتراث بالإسكندرية بإحياء منزل سيد درويش، الذي استطاع تغيير شكل الأغنية، بتحويله إلى متحف.