هاني حبيب يكتب: هل يمكن العودة عن “تتريك” الشمال السوري المحتل ؟!
كان يُعتقد وعلى نطاقٍ واسع أن سياسة تركيا إزاء الأحداث السورية تنطلق في جوهرها من منع ولادة أية دولة كردية محتملة أو أي شكل من أشكال النفوذ التركي أو التجمعات التركية المنظمة بالقرب من حدودها مع الدولة السورية، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه في ظل تعقيدات الأزمة السورية وتقاطع ملفاتها واستقطاباتها ومحاورها، إلاً من خلال الدعوة والعمل على ضمان وحدة الأراضي السورية مما يتعارض مع وجود مثل هذا النفوذ الكردي ذلك أنه من خلال هذه الدعوة يمكن فقط منع قيام أي شكل من أشكال هذا النفوذ وتنظيماته وهياكله السياسية والاجتماعية على الأراضي السورية المتاخمة لتركيا ومن هنا، لم يخلو أي اجتماع حول الأزمة السورية بمشاركة تركية من التأكيد دائماً وابداً على وحدة الأراضي السورية.
ولكن ومنذ بداية الأزمة السورية عام 2011 أمكن ملاحظة السياسية التركية الممنهجة التي تشير وتؤكد إلى زيف هذا الادعاء حول وحدة الأراضي السورية كدعوة حقيقية من قبل النظام التركي، وكانت الخطوة الأولى ذات الدلالة في هذا السياق قد تمثلت في النتائج المترتبة على معركة “بابا عمرو” في مدينة حمص السورية حيث عمدت تركيا إلى الاعتماد على الكتل التركمانية في المنطقة لتشكيل هياكل ومنظمات ومليشيات تابعة لها وتأتمر بأوامر الجيش التركي، ومن بين هذه الهياكل : كتائب السلطان عبد الحميد، وكتائب جبل الإسلام، واللواء التركماني الأول القريب من منطقة القلمون على الحدود السورية مع لبنان، ولواء أحفاد عثمان في ريف حمص الشمالي وعددٌ آخر من مثل هذه التنظيمات المسلحة الممولة من تركيا، وبالتوازي أقامت السلطات التركية مجالس سياسية وإدارية تركمانية بمشاركة عدة أحزاب أبرزها الكتلة الوطنية التركمانية وحزب النهضة التركماني، والحركة الديمقراطية التركمانية، وفي وقتٍ لاحق تم الجمع بين التنظيمات التركمانية المسلحة والأطر السياسية والإدارية فيما بات يسمى “درع الفرات”.
تعيد هذه السياسة إلى الذاكرة، ما طرحته تركيا مع بدء الأزمة السورية عام 2011 بإقامة ما يسمى، “مناطق” آمنة في شمال سوريا على تخوم الحدود معها، حيث اعترضت روسيا وتحفظت أميركا على هذا الطرح ما حال دون تحققه، من هنا كانت هذه السياسة التي تمثلت في الاعتماد على الأقلية التركمانية في تلك المناطق لإيجاد مناطق نفوذ واسعة للدولة التركية على الأراضي السورية في الوقت الذي لم تتمكن فيه القوات السورية المنشغلة بمواجهة الاحتجاجات المسلحة والفصائل الارهابية من وقف هذا النفوذ الذي تزايد وتواصل مع مرور الوقت على طول الحدود التركية السورية تقريباً، سواءً مباشرة من خلال قواتها أو من خلال فصائل ممولة وتابعة لها.
وكان يمكن تفسير الوجود العسكري التركي بمحاذاة الحدود مع سوريا بأنه يعود إلى الأوضاع العسكرية والأمنية فضلاً عن الخشية من ولادة هياكل سياسية واجتماعية وإدارة كردية تهدد الأمن القومي التركي وأن الأمر يتعلق بوحدة الأراضي السورية حسب الادعاء التركي وأن هذه الإجراءات مؤقتة ويمكن العودة عنها فور التوصل إلى تسوية سياسية إلاّ أن هذه الخطوات ذات الأبعاد السيادية والسياسية والإدارية التي أقدمت عليها السلطات التركية تشير بدون أي شك أن الأمر على خلاف ذلك فقد قامت هذه السلطات باتخاذ إجراءات وخطوات منهجية تهدف إلى تتريك هذه المناطق بشكلٍ مخطط متعمد بدءً من فرض اللغة التركية في المعاملات إضافة إلى تغيير أسماء الشوارع فضلاً عن فرض المنهج الدراسي التركي على طلبة المدارس في تلك المناطق.
فقد أقدمت هذه السلطات على تعديل المناهج الدراسية للمدارس الإعدادية والمتوسطة، وأدخلت اللغة التركية إلى جانب العربية في العملية التعليمية والتربوية كما إفتتحت جامعتين تركيتين جامعة الشام وجامعة باشاك شير في مدينتي أعزاز والباب وفي الميدان التجاري والمالي افتتحت السلطات التركية فروع للبريد التركي في مدينة جرابلس لرعاية تحويل الأموال وعقد الصفقات التجارية وأصبحت الليرة التركية تستخدم في التبادل التجاري اليومي إلى جانب الليرة السورية والدولار الأميركي.
وتأكيداً على تتريك تلك المناطق عمدت هذه السلطات على تغيير أسماء بعض المدن والقرى السورية إلى أسماء تركية مثل تبديل إسم بلدة قسطل مقداد شمال غرب سوريا إلى اسم “سلجوق أوباصي”، وتغيير اسم الساحة الرئيسية بمدينة عفرين إلى ساحة اتاتورك وتغيير مدينة القحطانية إلى تربي سببه وجبل عبد العزيز الشهير بالحسكة إلى اسم “قزوان” كما أطلقت اسم “روح آفا” على محافظة الحسكة إلاّ أن الأخطر من ذلك كله إلزام المواطنين لتغيير هوياتهم فقد اصدر ما يسمى المجلس المحلي للمعارضة في مدينة أعزاز بريف حلف تعميماً يلزم السكان باستخراج بطاقات هوية جديدة لاستخدامها في الدوائر الرسمية وبحسب هذا التعميم فإن هذه البطاقات ترتبط بدائرة النفوس التركية.
في سياق الأزمة السورية تلعب تركيا دوراً أكثر خطورة من كافة أطراف هذه الأزمة فإذا كانت الولايات المتحدة تعتمد على قوات التحالف والفصائل التي تتلقى الدعم منها فإن التدخل الأميركي المباشر قد يتراجع أو ينحصر مع أي حل سياسي قادم إلاّ أن الوجود التركي يهدف إلى ما بعد التوصل إلى مثل هذا الحل وذلك بخلق الوقائع والحقائق على الأرض من خلال عملية التتريك التي تستهدف بشكلٍ مباشر وحدة الأراضي السورية، كل ذلك في ظل الادعاء الحرب على الإرهاب بينما هي في الواقع حرباً على سيادة الدولة السورية على أراضيها.