يانا كوروبوكو تكتب: الغرب والإسلام.. أزمة النظام الأبوي

ما الذي يجمع بين أميركا  وروسيا والشرق الأوسط؟ للوهلة  الأولى قد يبدو أن مجتمعات المناطق الثلاث تنتمي إلى أنظمة ثقافية- اجتماعية مختلفة ، لكن في الحقيقة أن ما يوحد بين مجتمعات المناطق الثلاث يتمثل في أزمة النظام الأبوي- البطرياركي.

إن نظرة على تاريخ روسيا في العقود الأخيرة تظهر كم كان المجتمع الروسي يتوق إلى زعيم قوي، سلطوي وذي صلاحيات مطلقة، أي نموذج الأب الذي يمثل المجتمع أمامه ويجله. إن الذهنية الروسية لن تتوقف كثيرا عند الصلاحية الحقيقية لهذا الزعيم، لكنها ستتعلق بمكون الصورة في هيئته. وبهذا يتولد شعور العظمة لدى الفرد ، من خلال شعوره بالانتماء الى رمز عظيم.

لا يوجد شيء آخر يمكن أن تحتاجه الذهنية الروسية لكي تصل إلى تلك الحالة من الراحة النفسية، وهي الحالة التي يصبو اليها الروس بطريقة أو بأخرى، وهي أيضا الوسيلة التي تسير عليها حياة الفرد الروسي. الواقع يقول إن متطلبات المجتمع الروسي هي التي انتجت “بوتين” وهو بدوره استجاب لتلك المطالب واحتل المكان المثالي في المخيلة الروسية، وبالتالي يتناغم الجانبان لتبرير كل افعال الشخص الذي يحتل المكان المثالي أي “بوتين”.

لقد كانت الحرب في أوكرانيا تأكيدا على فاعلية وصلة النموذج الأبوي. فالحرب تجسيد لمظاهر دور “الأب”، إنها طريقة شرعية لممارسة الدور الذي يهدف لحماية المصالح الخاصة لشخص ما.

وأوكرانيا ليست فقط مكانا يجسد تلك المصالح، لكنها جزء أصيل منها. ونفس النموذج الأوكراني يمكن أن ينسحب على بقية جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، حيث كان نظام العلاقات يمنح القيادة للدور الأبوي لنموذج الأب ” البطريرك”، وفي حقبة تاريخية ما كانت هذه الجمهوريات تلتئم معا في صورة الأب الذي ينجز ما يتعهد به من حماية ويوفي بالتوقعات التي ينتظرها المجتمع منه. لننظر إلى ميخائيل جورباتشوف مثلا، الذي جسد صورة الزعيم الضعيف، لم ينجح جورباتشوف في الوفاء بتلك الشروط التي انتظرها الأفراد منه على عكس ما فعل سابقوه من زعماء سوفييت، ومن ثم كانت النتيجة – حسب الشروط والمعطيات- انهيار الأمبراطورية.

إذا طبقنا تلك النظرية على الشرق الأوسط، لن نجد خلافا كبيرا مع الحالة الروسية/السوفيتية، أو بالاحرى يمكننا الاستفادة من ذلك لتسليط الضوء على مقارنة جريئة بين ما حدث في اوكرانيا وما يحدث في العالم العربي.

لقد شهد العالم العربي، وفي ضوء ما يحدث من تغييرات، تراجعا في قيمة الأب ” الزعيم” ، بل وثمة محاولات كثيرة لإعادة تقييم تلك الصورة التي هيمنت عليه كثيرا. والنتيجة الفعلية لذلك هي أن المجتمعات العربية أصيبت بحالة من التشوش ، ولا تعرف أين تقودها بوصلتها. لا يمكننا أن نغفل هنا أن فقدان صورة الزعيم (الأب المسيطر)  قد ساهم أيضا في شيوع الإرهاب، الذي لم يكن سوى أيدلوجية تملأ الفراغ الناجم عن تحطم وفقدان ” المثال”، الذي ساد لفترة في دولة قوية وزعيم مسيطر.

بالطبع لا يمكننا ونحن نتحدث عن ” النظام الأبوي” أن نضع الدول الغربية في نفس السياق ، لانها ببساطة تعيش مرحلة “ما بعد النظام الأبوي” بعدما سُحقت صورة “الأب” في فترات مبكرة. لكن لنتوقف عن مثال الانتخابات الأميركية الأخيرة، وما شهدته من صعود لحساسيات لم تكن متوقعة، قادت في النهاية الى فوز دونالد ترامب. فهذا الفوز يصعب تفسيره بعيدا عن الرغبة في استعادة نموذج الزعيم/ الأب المثال. لا ينبغي علينا أن نصاب بالدهشة حين نعرف أن الغرب بات يخشى

ومنذ فترة طويلة ” نهاية العالم” ، لان العالم الغربي وببساطة بات يعيش هذه الحالة منذ حطم مثال الأب، أو بالاحرى منذ تجاوز المسيحية ، تلك الديانة التي كرست صورة “القائد الأب” على صورة الإله المسيحي. عندمت نستدعي صورة “الإله” تلك لا يمكننا أن نغفل مفهوم التثليث  الذي يعززها ( إنه الأب الذي يجسد في صورته الابن، ليتصالح مع ذاته التي صنعت الاثنين الروح القدس).

ماهية النظام الأبوي؟

إذن ما هو النظام الأبوي – البطريركي ؟ إنه نظام قيم يمنح الذكر البالغ  أدوات السيطرة في عائلة تقليدية، على جميع افراد تلك العائلة ومقدراتهم. إنه الرجل/ الضامن للحياة. في هذا النظام أيضا تغيب المساواة بين الرجل والمرأة. لكن لنتذكر أن ماركس قد أشار ايضا إلى أن تهميش المرأة لم يكن  حكرا على مرحلة ” النظام الأبوي” فقد كان النظام الرأسمالي، الذي يسيطر الآن،  هو من وظف النساء كجيش احتياطي للصناعة.

لكن الوضع تغير الآن، فدور المرأة أصبح أكثر فاعلية في إدارة شؤون أسرتها، وهو تطور يظهر في الوقت ذاته أزمة النظام الأبوي. لقد عرف التاريخ صيغ عدة للنظام الأبوي منها: نظام الرق، والنظام الإقطاعي، ونمط الإنتاج الأسيوي ، والرأسمالية التجارية، والاستعمار، كلها جميعا كانت تعبيرا بشكل أو آخر عن سيطرة ” الأب”. ولهذا يمكننا القول إن النظام الأبوي هو نظام للعلاقات المتوالية ، أي أن “الأب” يكافيء “الأبن ” حسب انجازاته.

وحسب الطبيعة ، يمكننت توصيف ذلك بـ” الحب الأبوي المشروط” وهو ما يتناقض مع “الحب الأمومي غير المشروط” ، أي الذي لا يتطلب سببا من أجل العطاء. لكن ذلك لا يعني أن أزمة النظام الأبوي سوف تقود بالضرورة إلى العودة إلى النظام الأمومي، فما نعيشه حاليا هو تداعيات وأعباء تخلينا عن النظام الأبوي، وما يحدث هو عدم اختفاء الرمز الأبوي كاملا بل تحوله الى صيغ أخرى. إن الرمز الأبوي يخضع لعملية تحول خلقية هي أحدى نتائج تأنيث الرجل العصري وتقلص دوره الحياتي. وهكذا فإن أزمة الهوية للرجل تكمن في حاجته إلى العثور على مكان ضمن نظام تبادلي جديد وسريع التغير. إن جوهر صورة الأب يتآكل باضطراد ، والرجل العصري بات يواجه تحديا رئيسيا يكمن ف إعادة تعريف دوره كرجل وكأب ومواطن. وبناء على كل ما سبق يثور سؤال: هل تحتاج الحياة العصرية إلى صورة الرجل ، وهل يتعين أن تتجسد صورة الأب في الرمز الذكوري فقط؟

إن ذهنية التحريم التي تحيط بموضوع الصحة العقلية لا تنفصل عن النظام الأبوي/ البطريركي، فالصورة الأبوية تتنافى مع صورة المريض ، الذي لا يستطيع القيام بدوره الرعوي (كما أشرنا آنفا إلى نظرية الحب المشروط) وهذه الصورة هي السائدة في الشرق الأوسط الحديث.

 أزمة النظام البطريركي؟

أن هذه الأزمة لم تنجم بسبب أن الرجال والنساء قرروا إعادة توزيع أدوارهم ، ولكن لأن النمط البطريركي أثبت مظاهر قصوره بوضوح . فالأب ” البطريرك” لم يختف ، بل يمر بمرحلة طفرة وتحولات. وبدرجة ما يمكننا القول إن صورة الأب في الوقت الراهن ماثلة أكثر من أي وقت مضى. ودوره موضع إعادة اعتبار ، لكنه لن يعود إلى بدايته الأصلية أبدا. أما المسألة الثانية فتتمثل في شيوع التكتولوجيا والعالم الافتراضي والتي قلصت بدورها من نفوذ الرجل وشيوع صورة المؤنث، ومن ثم فإن امتداد الأزمة الأبوية يتمثل في رفض الرجل في الإقرار بالمساواة مع المرأة. واذا كان لنا أن نتفهم بصورة افضل تداخل وجوه الأزمة في هذا النظام فربما يكون المثال الأوضح أمامنا هو المرض الشائع في الغرب أي الإسلاموفوبيا أو الرهاب من الإسلام.

فاليوم يتم تشويه و سوء فهم صورة العرب في الغرب. وعادة ما ينظر الغربيين الى غيرهم من قبل جانب واحد. وعلاوة على ذلك، تستند صورة العرب في الغالب على الصور النمطية، مدعومة بجهل الأوروبيين بثقافة الآخر. فالجهل الغربي يولد حساسية تجاه الفرد العربي ويخلق قلقا لدى الغرب وهو ما يؤدي لتصاعد التوتر بين الثقافتين ، دون حل جوهر المشكلة.

تختلف العقلية العربية عن العقلية الأوروبية. ففي المجتمع العربي, صُورَة الأب لا تزال قوية،  بينما في المجتمع الأوروبي فإن الأب العتيق، الذي رفع إلى مستوى الرب، قد مات. هذه صورة الأب الاستبدادي ،الذي يسيطرعلى كل جوانب عائلته (المجتمع)  وهي غير موجودة لديهم .

إن ما يخُيف الأوروبيين،وهُم الذين اعتادوا أن يكونوا غير مُقيدين في تحقيق رغباتهم. هو رجلٌ من الماضي، من القرون الوسطى متهم بإدامة النظام البطريركي,، ولديه رغبة واضحة في الحرب و يبدو أن الرجل المسلم يجمع كل ملامح هذا الأب العتيق.

تتملك الذهنية الأوروبية تلك الصورة العنيفة  عندما يتعلق الأمر بالعرب فقط، . لا شك أن هذه الصورة مخترعة ،فالعربي بالنسبة لها غير معروف وغامض ، وفي العقل الأوروبي – مثلاَ تهديد بالقتل – (موقف المذعور)  . ومن الواضح أن الغالبية العظمى من غير المسلمين لا يعرفون حقا ما هو الإسلام. وهذا ما يسبب الخوف من الإسلام أو بَارانويا الاسلام.  وهذا هو أيضا الرهاب الحقيقي. يتم تعريف الرهاب على أنهُ الهياكل الدفاعية ضد القلق.  ُيهدد الأب العربي العتيق النزاهة والاخلاق الأوروبية، هو قمعي ويتحول الى القلق، ثم يظهر بشكل الخوف. ومن هذا المنطلق، فإن الرهاب هو كيان متراكم يهدف الى حماية الفرد من قلقه عن طريق تحديد سبب هذا القلق( السبب هو المسلمين) وتكرار ذللك الى  ما لا نهاية.

يواجه الفرد المُرهب( الأوروبي هنا ) بتلك الصورة الهشة لغياب الأب ، وهو ما يولد المعاناة تجاه من يمتلك في المقابل رمز ” الأب القوي ”  . وهذا يقوده الى السؤال :ما هي نقطة الفشل في ذاته.. الكراهية وتشويه صورة المسلمين هي مؤشر على الضعف والفشل الأوروبي و هي تهدف لتعزيز النرجسية المكسورة للدول الأوروبية.

قد يبدو في النهاية أن تراجع النظام الأبوي وأزمته التي جاءت على رصيف الحداثة ، كانت دليلا على التقدم البشري،  لكن هذه ليست الصورة الكاملة . فحتى المجتمعات الحداثية – نموذج المجتمع الأميركي – لا يزل يحن لتلك الصورة كما اشرنا سابقا، أما المجتمعات التي تجاوزت النظام البطريركي بأكمله مثل أوروبا الغربية، فإن غضبها تجاه من يمتلكون ذلك النموذح ( العرب والمسلمين ) تولد داخلها رفضها يوحي بالحنين إلى ذلك النموذج، او على الأقل كراهية أن يكون قائما لدى الآخر.  باختصار لم ينته النظام الأبوي بل هو في سعي دائب لإعادة تعريف نفسه، وهو يطل برأسه بين الفينة والآخرى من بين ظلال الحداثة.

باحثة أوكرانية في شؤون الشرق الأوسط.

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]