ذكرى «وفاة» دولة عظمى.. حين توقف نبض الاتحاد السوفيتي
قبل 30 عاما.. وتحديدا في 26 ديسمبر 1991، توقف نبض العالم للحظات مع الحدث الطارئ والاستثنائي بتوقف نبض الاتحاد السوفيتي نهائيا، وانهيار الإمبراطورية الشرقية الكبرى.
لحظة تسجيل شهادة وفاة الاتحاد السوفيتي، بدأت مع لحظة جلوس الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف؛ معتدلا، أمام الكاميرا التلفزيونية للقناة الإخبارية السوفيتية الوحيدة «اوستانكينو»، يقرأ بصوت قوي، لا يرتعش بيان الاستقالة من منصب رئيس دولة لم تعد قائمة.
ولم تظهر على ملامح أول زعيم سوفيتي، يتنحى عن السلطة، أي تأثر.. وكان واضحا أن الخطاب معد بعناية، خاليا من التفاصيل التي لم تكن خافية على من تابع مسلسل الانهيار.
- وقبل أن يُنهي جورباتشوف خطابه في القناة التلفزيونية الإخبارية المحلية، وقبل أن يوقع أول وآخر رئيس سوفيتي على كتاب التنحي، سارع بوريس يلتسين، فأوعز لآمر حرس الكرملين، بإنزال علم المنجل والمطرقة، ورفع علم روسيا القيصرية.. وذلك إيذانا بوضع نهاية لإمبراطورية عظمى دامت 69 سنة.
وصل جورباتشوف إلى السلطة في العام 1985 وكان يبلغ من العمر 54 عاماً فقط. وبدأ سلسلة من الإصلاحات لبث حياة جديدة في البلاد التي كانت تعاني من الركود.
وبينما يجادل الكثيرون بأن هذه الإصلاحات التي عرفت باسم البيريسترويكا (إعادة البناء والهيكلة) والجلاسنوست (الانفتاح وحرية التعبير) أدت إلى زوال البلاد
ويقول آخرون إن الاتحاد السوفيتي كان غير قابل للاستمرار بسبب بنيته المتهالكة.
الدلالات والشواهد
لحظة تاريخية سبقتها وقائع وأحداث كانت تنذر بقرب النهاية للإمبراطورية الأعظم في العالم.
ويروي جينادي بوربولوس، أحد أبرز منظري إنهاء النظام السوفيتي، تفاصيل السيناريو الأخير لبدء السقوط، حيث عقد بوريس يلتسين مع رئيسي أوكرانيا «كرافتشوك»، وبيلاروسيا «شوشكيفيتش»؛ اجتماعا من وراء ظهر الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، في منتجع (بيلوفيجسكايا بوشا) في بيلاروسيا، يوم الثامن من ديسمبر عام 1991؛ وعقدوا العزم على حل الاتحاد السوفيتي، وقيام ما سمي باتحاد الجمهوريات المستقلة، بعضوية روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا.
- وقال: “وحين أبلغني يلتسين، هاتفيا، سألته هل جورباتشوف يعلم بقراركم، أجاب بقوة لا”..ويضيف جينادي بوربولوس: «لم يكن حينها في بار المنتجع غير قنينة كونياك واحدة، تقاسمناها برفع الأنخاب احتفاء بحل الاتحاد وكنا ثمانية»!
«يلتسين» أول رئيس منتخب في التاريخ الروسي
وفي 12 يونيو 1991 تم انتخاب يلتسين رئيسا لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكيه السوفيتيه بأغلبية57 ٪ من الأصوات، وأصبح أول رئيس منتخب شعبيا في التاريخ الروسي. كان موضع أمل الشعب الروسي المتطلع للحرية والديموقراطية والأهم من ذلك إلى مستوي المعيشة الأفضل.
لم يحتفظ يلتسين بشعبيته بعد إقرار إصلاحات اقتصادية جذريه في أوائل العام 1992، والتي كانت وراء تحطيم مستويات المعيشة لمعظم السكان في روسيا. حيث أدت إلى تدهور حاد في الخدمات ومستوي المعيشة وزيادة كبيرة في معدلات البطالة والفساد والتضخم.
وأدي انحسار دور الدولة والفساد والوضع الاقتصادي المتردي إلى ظهور الجريمة المنظمة أو ما يعرف بـ «المافيا الروسية» وتغلغلها في معظم مناحي الحياة في روسيا، بحسب الباحثتان الروسيتان أولجا إيفشينا وكاترينا خينكولوفا، ولكن استطاع يلتسين الفوز مرة أخرى في انتخابات سنة 1996 وظل في السلطة حتى سنة 1999 حينما استقال من منصبة فجأة خلال خطاب رسمي اعتذر فية عن عدم تحقيقه لأحلام الشعب الروسي وقد رشح فلاديمير بوتين، خلفا له.
- كان يلتسين عندما ترك منصبه شخصية غير شعبية تماما في روسيا حيث وصلت شعبيته إلى اثنين في المئة بحسب بعض التقديرات.
جورج بوش في الساحة الحمراء
بعد مرور عام ـ تقريبا ـ من الحدث الأكبر (انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي)، سارع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش «الأب»، بزيارة موسكو في الثالث من يناير/ كانون الثاني 1993؛ ليرصد عن قرب مشاهد سقوط وانهيار المنافس الأكبر والوحيد للنفوذ الأمريكي في العالم.. ويتجول في الساحة الحمراء إلى جوار ضريح الزعيم والرمز، والمؤسس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية، فلاديمير لينين.
كانت زيارة جورج بوش الأب، تحمل «رسالة تشفى» لا تخفى على أحد، في جولته المنتشية بالساحة الحمراء، يرافقه عشرات الصحفيين الأمريكان، يلتقطون كل ما يرونه في الساحة التي كانت لدى الأحزاب الشيوعية العالمية، رمزا لشعلة الثورة..
وبدت دهشة الرئيس الأمريكي، بقوله: «لم نتوقع أن ينهار الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة»؟!
أسباب الانهيار والتفكك
ويرى خبراء ومحللون أن هناك أسبابا دفعت باتجاه انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي مقدمنها ـ بحسب شبكلة «بي بي سي» البريطانية، الانهيار الاقتصادي ، ويعد أكبر مشاكل الاتحاد السوفيتي، حيث كان اقتصاد البلاد مخططاً مركزياً على عكس اقتصادات السوق في معظم البلدان الأخرى.
وفي إطار سياسة البيريسترويكا لجورباتشوف، تم اعتماد بعض مبادئ السوق لكن الاقتصاد السوفيتي العملاق، كان عصياً على الإصلاح بسرعة..وظلت السلع الاستهلاكية شحيحة وارتفع معدل التضخم بشكل كبير.
- وفي العام 1990 أدخلت السلطات إصلاحاً نقدياً قضى على مدخرات ملايين الأشخاص على الرغم من ضآلتها، لذلك ساد شعور قوي بالإحباط من سياسات الحكومة.
وثانيا: كانت سياسة الجلاسنوست، التي انتهجها جورباتشوف، تهدف إلى السماح بقدر أكبر من حرية التعبير في بلد قضى عقودا في ظل نظام قمعي، حيث كان الناس خائفين جداً من الإفصاح عن أفكارهم أو طرح الأسئلة أو الشكوى.
وتم فتح أرشيف الدولة الذي أظهر الحجم الحقيقي للقمع، في عهد جوزيف ستالين (الزعيم السوفيتي بين عامي 1924 و 1953) حيث قتل خلال تلك الفترة ملايين الأشخاص.
- شجع جورباتشوف، على مناقشة مستقبل الاتحاد السوفيتي وهياكل سلطته وكيفية إصلاحها للمضي قدما، حتى أنه أثار فكرة التعددية الحزبية متحديا هيمنة الحزب الشيوعي.
وثالثا: كان الاتحاد السوفيتي دولة متعددة القوميات، ويتألف من 15 جمهورية تتمتع نظرياً بحقوق متساوية كأمم شقيقة، ولكن على أرض الواقع كانت روسيا هي الأكبر والأقوى إلى حد بعيد وسيطرت اللغة والثقافة الروسية في العديد من المجالات.
- وسمحت سياسة الجلاسنوست، لأبناء العديد من الجمهوريات الأخرى بمعرفة القمع القومي الذي تعرضت له سابقاً مثل المجاعة الأوكرانية في الثلاثينيات من القرن الماضي والاستيلاء على دول البلطيق وغرب أوكرانيا بموجب اتفاقية الصداقة السوفيتية النازية والترحيل القسري للعديد من المجموعات العرقية خلال الحرب العالمية الثانية.
وأدت هذه الأحداث والعديد من الأحداث الأخرى إلى تعزير النزعة القومية والمطالبة بتقرير المصير.
وتعرضت فكرة الاتحاد السوفيتي كعائلة أمم سعيدة للتقويض والمحاولات المتسرعة لإصلاح الاتحاد من خلال تقديم المزيد من الاستقلال الذاتي للجمهوريات كانت غير كافية وفات أوانها.
بوتين يستعيد نبض الاتحاد السوفيتي
كانت روسيا الاتحادية ( وريثة الاتحاد السوفيتي)، تؤمن بدوافع القومية التي تقاوم بدورها الانهيار، أن موسكو الثورية؛ ستبقى مصطبغة بالأحمر القاني، وأن ساحتها «الحمراء» ستظل منارة؛ حتى تحقق الحلم، بتولي فلاديمير بوتين منصب الرئيس بالنيابة من عام 1999 إلى عام 2000 خلفا لبوريس يلتسين الذي قدم استقالته ثم شغل منصب رئيس روسيا في أربع فترات بداية من العام 2000 إلى 2004، ومن 2004 إلى 2008، ثم تبدل الموقع ليصبح رئيسا للوزراء، والعودة لمنصب رئيس روسيا من 2012 إلى 2018 ومن 2018، إلى الوقت الحالي.
- ونجح بوتين في استعادة نبض الاتحاد السوفيتي في صورة «روسيا الاتحادية»، مستعيدا «وهج» الهوية والقومية والنفوذ الدولي.
