رغم مكانة والديه الفنية.. زياد الرحباني يحقق المعادلة الصعبة
أن تكون ابنا لوالدين مبدعين أمر معتاد، لكن الأمر يختلف تماما إذا كان الوالدين علامة ومدرسة موسيقية، لها ثقلها وتأثيرها الفني، فشهرة الوالدين غالبا ما تكون عقبة أمام الأبناء إذا كانوا يملكون نفس الميول الإبداعية.
أن نتأثر بكل ما حولنا من بتجارب، ونستعين بما سبق منها أمر طبيعي، لكن هناك من يختزل تلك التجارب ويمزجها ببراعة مع رؤيته المستقلة وملامح روحه الخالصة، لينتج في النهاية تجربته المتفردة، على عكس من يكتفون بالنسخ والتكرار.
استطاع زياد الرحباني، الابن الأكبر للموسيقار عاصي الرحباني والمطربة فيروز، أن يكسر تلك القاعدة ويحفر اسمه بخصوصية بين عظماء الموسيقى، على غير المعتاد في مثل هذه الحالة، حيث لا ينعم الأبناء عادة بموهبة أو شهرة الآباء، إذا تميزوا في مجال معين، والأمثلة كثيرة على هذا ولا حصر لها في وطننا العربي، بل وعلى مستوى العالم، والعكس صحيح، فمن الممكن أن يتحقق أحد الأبناء وينعم بشهرة كبير، لم يصل لها والديه في نفس المجال.
كان الوالد عاصي الرحباني يطلب سماع رأي ابنه زياد ذو الـ6 سنوات في ألحانه الجديدة، ليتفاجأ في أحد المرات بسماع الأبن يدندن لحنا ما، فسأله أين سمع هذا اللحن، أجاب الابن ببساطة: «لم أسمعه مطلقا.. بل هو يتردد في ذهني منذ حين».
ومع ذلك لم تكن الخطوات الإبداعية الأولى لزياد باتجاه الموسيقى، كان الشعر محطته الأولى مع مجموعة بعنوان «صديقي الله»، ثم دخل عالم الموسيقى بأول لحن له «ضلك حبيني يا لوزية» سنة 1971.
وفي سن السابعة عشر قدم زياد أول لحن تغنت به والدته فيروز «سألوني الناس»، في مسرحية «المحطة» من كلمات عمه منصور الرحباني، وكان السبب مرض عاصي في تلك الفترة ودخوله المستشفى، فأوكل مهمة تلحين الأغنية لابنه زياد، وكانت النتيجة ملهمة ومفاجأة للجميع، حيث قدم ابن السابعة عشر لحنا بمستوى ألحان والده المخضرم.
واستمر زياد السير على خطى الأخوين رحباني فترة من الوقت، خاض خلالها تجاربه الخاصة وسط معترك فكري وسياسي نشأ مع الحرب الأهلية في لبنان، في تلك المرحلة تمرد الابن على مدرسة الوالدين الرومانسية الحالمة، واختار الشكل «الواقعي» لتقديم أعماله.
وفي إحدى الدراسات حول أعمال زياد الفنية ذكرها مجودي إسماعيل في مقال له موضحا «إذا أخذنا فن شعر الأغنية كمثال فإننا نرى بوضوح فاقع أن لزياد وعيا فنيا نقديا، لا يقل في وضوحه عن وعيه الاجتماعي النقدي».
وأضاف: «حين بدأ زياد نشاطه الفني، متوازياً مع انحيازه الفكري والسياسي فإنه كان -ربما- أكثر شخص معني بتحديد موقف فني من الأغنية الرحبانية.. من أوائل أغانيه (يخربيت عيونك) فهي تصلح بحق، أن تدعى من منظور الأغنية الرحبانية أغنية مضادة. حيث قطع زياد قطعاً عنيفاً مع قاموس الأغنية الرحبانية.. ولا تقل الموسيقى فظاظة عن الكلمات، إيقاعات صاخبة وتوزيع موسيقي يذكرك بالموسيقى العسكرية».
انطلق الابن متحررا من جميع القيود ،و معبرا عن موهبته بخصوصية وتفرد، واستمر في تطوير نفسه دون تردد أو خوف، عمل في الصحافة، كتب الشعر، وقدم العديد من الأعمال المسرحية، كما دخل المعترك السياسي. في النهاية استطاع زياد أن ينشأ مدرسته الموسيقية التي أثرت في جيله وأجيال أخرى قادمة من بعده.
تخطى زياد مدرسة الرحبانية، لكنه لم يتخلى عن صوت والدته، وقرر أن ينطلق معها في شكل موسيقي مختلف عن ما قدمته برفقة والده وعمه، تعامل زياد مع صوت فيروز من منطقة مختلفة تماما وبألحان وكلمات صدمت جمهورها في البداية، حيث اعتاد سماع موسيقى وموضوعات حالمة، لم تبرز جوانب وامكانات أخرى في صوت فيروز.
وفي هذا الجانب تحديدا أشاد المؤرخ الموسيقي اللبناني، إلياس سحاب في إحدى الحوارات الصحفية، أن زياد استخدم طبقات صوتية جديدة في صوت فيروز موضحا: «زياد أغنى صوت فيروز وبرزت شخصيته التي تستند الى الفانتازيا الموسيقية، لا سيما منها مدرسة الجاز الأميركية بما فيها البلوز».
وأضاف: «لم يخرج زياد صوت فيروز عن وقاره الكلاسيكي، وكان يرافق التطور الفيزيولوجي، الذي كان يترك أثره على حنجرة فيروز، مع الإفادة من الحساسية الخاصة الكامنة في صوتها، فيأخذها إلى مساحات خاصه به، خاصة بزياد».
بالتأكيد تظل الأغنيات التي قدمتها فيروز مع الأخوبن رحباني، قيمة فنية ملهمة في نظر جمهورها العربي، لكن تجربة زياد وفيروز أنتجت نوع خاص ومختلف من الأغنيات، كانت الأقرب لجيل السبعينات والثمنينات، ولم تكن مهمة زياد سهلة في إقناع والدته بهذا التغيير في طرح الموضوعات، ونوعية الكلمات والألحان التي ستقدمها لجمهورها.
وحكى زياد زياد في أحدى اللقاءات التلفزيونة أنه حين عرض على فيروز أغنية «كيفك إنت» رفضت في البداية، وبعد محاولات لإقناعها طلبت منه ترك الأغنية للتفكير. وظلت فبروز تفكر مدة سنة كاملة أخبرته بعدها بموافقتها، لتعود بعد غياب سنوات إلى جمهورها بألبوم حقق نجاحا مذهلا خاصا بين جمهور الشباب.
رغم شخصيته الجدلية استطاع زياد تحقيق معادلة دقيقة وغالبا ما تفشل، تميز في مجاله مع صعوبة ذلك، ليصبح واحدا من أهم الموسيقيين، الذين قدموا جديد يضاف لأرشيف الموسيقى العربية.
https://soundcloud.com/ajassim/jjefufcfzfdb
