المحفزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أدب نجيب محفوظ
أطل الأديب نجيب محفوظ لأول مرة في الأربعينيات على استحياء، كأي أديب شاب يبحث عن فرصة للنشر، لكنه لم يلق الحفاوة المطلوبة وحتى حقبة الخمسينيات.
ومع تلك الصعوبات التي واجهها محفوظ كأديب يشق طريق البداية فقد كان محظوظا لمجيئه في هذا العصر الذى لم يكن هادئا وسهلا، كما يظن البعض، لقد كان العالم مشتعلا ومليئا بالصراعات والحروب العظمى، والتقلبات السياسية والاقتصادية والقضايا الاجتماعية الخطيرة، والتى رسمت معالم جديدة لخارطة الحياة.
لم يكن الشرق الأوسط على الجانب الآخر خارج أرض المعركة، لقد عانى من الاستعمار طويلا، وكان ساحة لمعارك الصراع العالمى والقتال، في تلك الفترة كان محفوظ يكتب ويدون ويسجل كل التفاصيل التي تدور حوله، لقد رصد التحولات الجذرية، والتغيرات العامة بما فيها الاقتصادية فى التاريخ المصري الحديث بعد ثورة 1919، مرورا بالحرب العالمية الثانية وصولا لاندلاع ثورة الضباط الأحرار سنة 1952.
عاش نجيب محفوظ ثورتين في مصر، وعدة حروب عظيمة مرت بها المنطقة العربية، الأمر الذي شكل لديه نمط كتابة متأثر بعدة عوامل «دراساته الفلسفية، والتوجهات الوجودية وانشغاله الدائم بالحقيقة، وإشكاليات الزمن، وبحثه الدءوب عن أصل ونشأة الكون، وفكرة العبثية وهم الوجود الإنسانى» يجد القارئ الدارس لنجيب محفوظ ميله للفكر الماركسي والاشتراكي كان يأمل أن يحقق هذا الفكر السلام الإنساني فبعد نجاح تجربة اليسار فى روسيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولد الأمل لدى محفوظ أن تحاكي مصر التجربة الروسية.
ويكرر نجيب محفوظ دائما الصورة الفريدة للحارة المصرية ويصر دائما على أن تكون تلك الحارة هي الرمز المصغر للمجتمع المصري فى أعماله الأدبية، فهي الحارة التى شهدت مولده والتي مر من خلال أزقتها وحوانيتها عندما كان صبيا، ثم صار شابا فكان يجلس على مقاهي وسط المدينة ، ومنطقة الحسين مسجلا تفاصيل الحياة اليومية وتحركات وإيماءات المارة والعابرين من أبناء الطبقة الوسطى، والكادحين البسطاء ممن يكتظ بهم المكان، فجعل منهم أبطالا لرواياته وأطلق عليهم «الحرافيش»، واستطاع بفنه وذكاءه أن يخرج الرواية من الإقليمية إلى العالم الكبير.
أدب نجيب محفوظ مكتسي بالنزعة الصوفية، وهو يحاول إعادة كتابة التاريخ الفرعوني بشكل جديد فى أولى أعماله عبر ثلاثيته «رادوبيس ــ كفاح طيبة ــ عبث الأقدار»، إلا أنه اتجه بعد ذلك لنقد المجتمع قبل ثورة 1952، من خلال ثلاثيته الشهيرة «بين القصرين – قصر الشوق – السكرية»، وبعد الثورة توقف عن الكتابة، لأن أحلامه الإشتراكية لم ترى النور فأصيب بالإحباط واليأس.
ويأتي التتابع السريع والمتلاحق للأحداث السياسية والرؤى الفكرية والاجتماعية المنبثقة من نتائج التغيرات التى أحدثتها الثورة، ليدفعه إلى العودة للكتابة مرة أخرى؛ وظهر ذلك فى عمله الجديد، الذى بدأ بروايته الشهيرة «أولاد حارتنا» والتى منعت من النشر كاملة فى مصر وقتها 1959؛ بعد سبع سنوات من مراقبة واستكشاف ما جرى فى المجتمع، لجأ فيها إلى الرمزية أكثر من المباشرة، وإلى الطابع التعبيري والتجريدي، بخصوصية تامة تفرد بها، واتسمت بالملحمية واللامعقول، وعوالم من «الفانتازيا» والموضوعات الافتراضية، وهو ما كرره فى رواية «ميرامار»، و«ثرثرة فوق النيل».
ورغم منعها من النشر فى مصر اختارت لجنة نوبل «أولاد حارتنا»، ضمن أعمال أربعة استحق عليها الروائى جائزة نوبل سنة 1988، وهى ثلاثية القاهرة وأولاد حارتنا، والتى كانت سببًا فى محاولة الاغتيال التى تعرض لها عام 1994م؛ بينما رفض نجيب محفوظ نشر الرواية بعد ذلك أو إعادة طبعها، ولم يكتب شيئًا بعد تلك الحادثة سوى “أحلام فترة النقاهة” التى نشرت فى حلقات متسلسلة فى مجلة “نصف الدنيا” ثم نشرتها دار الشروق بعد ذلك عام 2005م، وقامت بإعدادها الصحفية سناء البيسى رئيس تحرير المجلة السابق.
