علي الصراف يكتب: العراق في ذكرى رحيل المجيد

لم يحظ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بأن يتحول الى أيقونة تمجيد وتبجيل في حياته مثلما أصبح بعد موته. كنا نرى مثالبه، فصرنا نرى محاسنه. وما ذلك إلا منقلب عجيب.

سلطته دائما ما كانت موضع جدل. وكلما كانت الحال تزداد ضيقا على العراقيين في سنوات الحصار الطويلة، فقد كان من الطبيعي للنقمة أن تتجه إليه.

الضغوط والتهديدات الخارجية حملته الى تبني سياسات أمنية صارمة، كان دافعها الرئيسي هو الخوف على مصير مشروعه لبناء قوة إقليمية عظمى.

في الطريق الى ذلك المشروع مورست الكثير من الانتهاكات والجرائم من جانب مؤسسة أمنية تدين له بالولاء، ولكنها كانت مؤسسة غالبا ما يقودها سطحيو ثقافةٍ يعتقدون أنهم كلما ازدادوا بطشا كلما نجحوا في مهمتهم. وظل العكس هو ما يحصل من دون أن تتسع مداركهم لكي يفهموا لماذا.

الكثير من الأمثلة الشخصية، أظهرت أن هذا “الدكتاتور” كان صارما مع نفسه ومع عائلته ومع رفاقه، في دلالة على حرص شديد على أن يسير الجميع على صراط مستقيم. وما من زلة، صغيرة أو كبيرة، إلا وكان عقابها قاسيا. وقد يعفو عمن يزل من عامة الناس، ولكنه لا يعفو عن مقربيه.

قناعته هي أن العراق لا ينضبط في مسار بناء حقيقي وشامل، بالليونة والتراخي والتسامح مع زلات المسؤولين، لأنها مخاطر في نهاية المطاف.

على هذا الأساس، لم يكن هناك فساد في العراق تحت سلطته. وما من وزير كان يملك درهما واحدا خارج العراق. ولا كان يجرؤ أي أحد أن يجني منافع شخصية من وظيفته العامة.

كان يمكن أن يعطيك كل ما تريد إذا طلبته منه وجها لوجه، ولكن كان يمكن أن يجردك من كل شيء إذا سرقت درهما. بل وكان يغدق العطاء على مواطنين أكثر مما يعطي للمسؤولين. يملك سلطة التحكم بكل شيء، ولكنه لا يملك لنفسه شيئا. والى حد كبير كان ذلك تجسيدا لتمازج فريد بين شخصه والعراق. هو العراق الكريم، وهو العراق المتعالي، وهو صانع المجد، والشديد القسوة أيضا.

وكان العراقيون بين خيارين: إما أن تقبل مشروعه وتؤمن به وتستسلم له بمحض إرادتك، أو أن تكون خطرا عليه.

الكثير ممن آمنوا واستسلموا كانوا من “أهل الولاء”، الذين غطوا ضعفهم وفقرهم المعرفي بولائهم، قبل أن ينتهوا الى أن يكونوا هم أول من خانوه. بينما غلبت على الآخرين غطرستهم الخاصة، فوقعوا تحت طائلة القمع. لم يكونوا أذكياء، لأنهم عجزوا عن أن ينظروا الى الصورة الكبرى كما ينظر إليها صدام حسين لعراق قوي، منيع، ناهض البنيان الاجتماعي والاقتصادي ومتعلم. فقسا عليهم بمقدار ما قست عليهم شكوكهم بمقاصده.فأطلق “أهل الولاء” في المؤسسة الأمنية لأنفسهم العنان ليرتكبوا الفظائع، وليزينوها بـ”الدفاع عن العراق”.

وما من قسوة إلا ويتجاورها ظلم. ذلك من عزم الأمور.

ولا سبيل للشك في أن صدام لو حوكم على تلك الانتهاكات، لكان من الشجاعة أن يتحمل مسؤوليتها برأس مرفوع. إشارات كثيرة أثناء محاكمته المزيفة دلت على ذلك.

ولكنه كان على موعد آخر.

أراد الله أن يُنجيه، وأن يعود ليرفع مقامه، وأن يأخذه بحسن نيّاته، وأن يغفر له خطاياه كلها، بأن سلّط عليه من يظلموه. وأن جعلهم يتصرفون معه في سجنه كأناس مسعورين، وأن يتصرفوا كمأجورين ليس لأحقادهم وحدها ولكن لأحقاد إيران عليه وعلى عراقه الذي أذاقها مر الهزيمة.

كل سجلات المحاكمة تشهد على ذلك. الطريقة السافلة التي كان يخاطبه بها بعض القضاة كانت وحدها دليلا على جبن رخيص (أو “ولْية مخانيث”)، لأشخاص تحركهم دوافع الحقد لا دوافع القانون.

وكان ذلك شيئا رائعا في الحقيقة؛ شيئا لا يمكن لأي إنسان أن يتمنى أفضل منه لشهيد. لأنهم كلما أساءوا له، كلما زادوا فضله عند ربه. وما كان ذلك من فضل الغيب الذي لا يراه أحد. الناس صاروا بأعينهم يشهدون وبآذانهم يسمعون، فاعترفوا به، ولو متأخرين. هذا من قبل أن تصبح المقارنة بينه وبين مَنْ تولوا سلطته موضوعا للتندر عليهم، والأسف على رحيله.

لم يحدث في التاريخ أن أصبحت النذالة وغياب العدالة شيئا مفيدا مثلما كانت في محاكمة صدام. ذلك أنها، مع كل خطوة من خطوات الأحقاد، كانت تُسطّر له غفرانا بعد آخر، حتى علا جدار الصفح، ليحوّله الى بطلٍ أرقى مقاما وعلوا مما كان يمكن أن يحلم به هو نفسه.

وعندما حانت الساعة ليرتقي حبل المشنقة، كان شاهقا بقامته، وظل الحاقدون ينتظرون موته وهم تحت قدميه العاليتين.

أحد أهم أدلة الغفران المادية هي أنه ما من تسجيل من تسجيلاته، إلا وأصبح مثار اعتزاز برجل اسطورة. خطاباته، موافقه، تعليقاته، ضحكاته، وكل شيء صدر عنه، بما في ذلك بعض شواهد قسوته نفسها، تحولت الى أسباب تغذي الإعجاب بقائد عاش بطلا ومات بطلا ورحل مرفوع الرأس.

لا داعي أبدا للقول، أن الرعاع الذين تولوا قيادة العراق من بعده، لا يجرؤون – وهم ارتكبوا من الجرائم ما يكفي لملايين المحاكمات- أن يقفوا وقفته المجيدة، ولا أن يعتلوا حبل مشنقة بشجاعة. فذلك أمر لا سبيل للنقاش فيه. لأنهم رعاع في الأصل، ولأنهم أتباع مشروع تخريب، ولأن المسافة بينهم وبين طهر اليد والنفس أبعد من المسافة بين الأرض والمريخ.

أكتب هذا اليوم، وأعرف أنه لن يفيد أحدا إلا بعد وقتٍ، لا أعرف كم سيطول.

صدام المجيد، يحسن أن يبقى وحده صاحب هذا المنقلب العجيب، بين أن يكون “ديكتاتورا” على حق، وأن يكون من بعد ذلك شهيدا يشهد له حب الناس وغفرانهم.

الظالمون اليوم كثر. إنهم أكثر من الجراد إذا نظرت الى غلمان إيران في العراق، من عصابات الحشد الشعبي، الى مافيات الأحزاب الموالية للولي الفقيه، الى عمائم الفسق التي تحيط بهم.

وأعرف أنه لا سبيل للمقارنة. ولكنهم ذات يوم سوف يُحاكمون. جميعهم سوف “يعملها على نفسه” من فرط الخوف، ومن فرط ما جمع من جنى الفساد الذي ظن أنه سيبقيه حيّا إلى الأبد. وأغلبهم سيلوذ بالفرار ليهنأ بما نهب. ولكنهم سيحاكمون.

ما أتمناه هو ألا يحكموا إلا بالعدل؛ إلا بأرفع قيم القانون. وإلا تضار شعرة من أجسادهم. ليكون الحق حقا عليهم بما عملوا.

طغاة آخرين لا يستحقون إلا العدالة بأجلى صورها. ذلك هو السبيل الوحيد ليكونوا من حطب جهنم. ذلك لأنك إذا ظلمت ظالما، غفرت له.

ساعتها، يبقى المجيد مجيدا، والرعاع رعاعا. وكلٌّ الى ربهم يرجعون.

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]