محمود علوش يكتب: واشنطن توازن بين مواجهة روسيا واحتواء الصين  

محمود علوش

قبيل الفترة التي سبقت الحشود العسكرية الروسية قرب الحدود الأوكرانية وصولاً إلى الحرب، كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتحرك باتجاه التركيز على مواجهة التحدي الذي تُشكله الصين على مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية رئيسية. في سبتمبر أيلول من العام الماضي، أبرمت الولايات المتحدة اتفاقية أمنية تاريخية مع بريطانيا وأستراليا لتزويد الأخيرة بتكنولوجيا بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية ونُظر إليها على أنها أكبر جهد أمريكي لمواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي. قبل إبرام الاتفاقية ببضعة أشهر، عقد بايدن قمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف منتصف يونيو حزيران من نفس العام. وتوقع المسؤولون الأمريكيون وقتها أن العلاقات الروسية الأمريكية ستدخل في فترة من الاستقرار الاستراتيجي بما يُساعد واشنطن على تركيز مواردها السياسية والعسكرية والاقتصادية على الصين. جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتقلب الحسابات الجيوسياسية لمعظم دول العالم رأساً على عقب لا سيما الولايات المتحدة والدول الأوروبية. كما دفعتها إلى تغيير أولوياتها نحو زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز وجود حلف الناتو في أوروبا الشرقية لمواجهة التهديد الروسي.

 

بالنسبة لواشنطن، خلق الصراع الراهن مُعضلة أخرى لم تكن في حسبان إدارة بايدن وتتمثل في كيفية الاستجابة الفعالة لمواجهة التهديدات الروسية في أوروبا الشرقية مع الحفاظ على التركيز طويل الأجل على مواجهة الصين. كانت بكين وموسكو مُصنّفتين في الاستراتيجية التي وضعها البنتاغون منذ عام 2018 على أنهما مصدر قلق رئيسي للولايات المتحدة. وكان من المقرر أن تضع وزارة الدفاع الأمريكية الاستراتيجية الجديدة في وقت سابق من هذا العام، لكنّها تم تأجيلها بسبب الحرب. من غير الواضح ما إذا كانت الاستراتيجية الجديدة ستتأثر بالظروف الجديدة التي أفرزتها الحرب، إلاّ أن معظم مراكز الدراسات الأمريكية المهمة تتوقع أن تُبقي على الصين كتهديد رئيسي بينما ستكون روسيا أولوية ثانوية. وينبع هذا الاعتقاد من تصور أمريكي راسخ لدى مؤسسات صنع القرار في واشنطن بأن الصين ستبقى الدولة الوحيدة التي تُشكل تحدياً رئيسياً للولايات المتحدة في الوقت الراهن ولبقية هذا القرن. ويشمل التحدي جوانب عسكرية واقتصادية وتكنولوجية ودبلوماسية وجيوسياسية. رغم ذلك، فإن التركيز الأمريكي الراهن على روسيا سيؤدي إلى فقدان زخم استراتيجية احتواء الصين.

 

قبل أسابيع من اندلاع الحرب، أرسلت الولايات المتحدة أكثر من خمسة عشر ألف جندي إلى أوروبا كرسالة ردع لموسكو، ما رفع عدد القوات الأمريكية المنتشرة في القارة الأوروبية إلى أكثر من مئة ألف جندي للمرة الأولى منذ عقود طويلة. كما نشر أعضاء حلف شمال الأطلسي الآخرون تعزيزات عسكرية في دول البلطيق وبولندا والمجر ورومانيا. لكن، حتى مع تركيز واشنطن على تعزيز الوجود العسكري في شرق أوروبا، فإنه من المستبعد أن يصل الانتشار الدائم للقوات الأمريكية في المنطقة إلى المستوى الذي كان عليه قبل عقود. لذلك، تدفع الإدارة الأمريكية الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكري وتولي مسؤوليات أمنية أكبر في الدفاع عن الحدود الشرقية لأوروبا، على أمل أن يُساعدها ذلك في موازنة مواردها العسكرية على الجبهتين الروسية والصينية. علاوة على ذلك، فإن الخطط العسكرية الأمريكية لمواجهة الصين في المحيط الهادئ تعتمد بشكل رئيسي على القوات البحرية والجوية في حين أن ردع روسيا في أوروبا يعتمد بشكل رئيسي على القوات البرية.

 

يكتسب الدور العسكري الأمريكي الحالي في أوروبا أهمية كبيرة للأعضاء الأوروبيين في حلف الناتو، والذين يعتمدون بشكل رئيسي عليه كرادع قوي ضد روسيا. حتى الآن، استجابت إدارة بايدن بشكل فعال للأزمة، لكنها تضغط باتجاه أن يكون للأوروبيين دور عسكري فعال على المدى البعيد. في لغة الأرقام، يُمكن لأوروبا أن تقوم بهذا الدور. حتى ما قبل الحرب، كان الأعضاء الأوروبيون في الناتو ينفقون نحو أربعة أضعاف الإنفاق الروسي على الدفاع. كما أن الناتج الإجمالي لدول أوروبا يتجاوز الناتج الإجمالي لروسيا بأكثر من عشرة أضعاف. مع ذلك، فإن الرغبة الأوروبية في تحمل العبء العسكري الأكبر في ردع روسيا تصطدم بحقيقة أن الأوروبيين قد لا يكونون مستعدين بنفس القدر لتحمل حرب باردة جديدة مع روسيا والدخول في سباق تسلح طويل الأمد معها. يُضاف إلى ذلك الاختلافات الوطنية داخل الاتحاد الأوروبي والمخاوف بشأن نقاط الضعف الاقتصادية.

 

بالنظر إلى أن جوهر الصراع لا يرتبط فقط بمسألة أوكرانيا، بل يتعلق بمستقبل الهيكل الأمني الأوروبي، فإنه من غير الممكن أن تنجح الاستراتيجية الأمريكية في دفع الأوروبيين إلى لعب دور أكبر في حماية مصالحهم الأمنية وتجنب صراع طويل الأمد مع روسيا دون الاتفاق معها على إنشاء هيكل أمني جديد لأوروبا. علاوة على ذلك، تشير الجرأة الروسية في تحدي الهيكل الأمني السائد منذ نهاية الحرب الباردة إلى إصرار موسكو على أن تكون طرفاً في أي هيكل أمني جديد. سيتعين على الولايات المتحدة العودة إلى سياسة احتواء موسكو إذا ما أرادت استقرارا طويل الأمد في أوروبا الشرقية. في الوقت الراهن، تشهد العلاقات الروسية الأمريكية تراجعاً حاداً يقترب من نقطة اللاعودة. خلال أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، لعب الخط الساخن على مستوى القادة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، دوراً رئيسياً في إنهاء تلك الأزمة، بينما العلاقات الراهنة بين الرئيسين بوتين وبايدن وصلت إلى أدنى مستوياتها وسيتعين على موسكو وواشنطن العمل باتجاه إعادة التواصل بين الزعيمين كضرورة لا مفر منها لمنع تفاقم الصراع وخروجه عن السيطرة.

 

تسعى الولايات المتحدة في الوقت الراهن إلى ضمان عدم تقديم الصين دعماً لروسيا في الحرب على أوكرانيا. مع ذلك، تُحاول بكين أن تتصرف كدولة أكثر مسؤولية رغم تقاربها مع روسيا. بالنّظر إلى التحديات الكبيرة التي يجلبها الصراع الروسي الغربي بالنسبة لإدارة بايدن، فإن الولايات المتحدة لا تملك القدرة العملياتية أو الاهتمام المستمر بالتزام كامل وطويل الأمد على جبهتين كبيرتين. لكنّ دفع الحلفاء في أوروبا والهند والمحيط الهادئ إلى الالتزام بنشاط أكبر يُخفف من الأعباء على واشنطن. لن يكون بمقدور الولايات المتحدة تحقيق ذلك من دون تعزيز الهياكل الإقليمية القائمة التي تجمع حلفائها كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. في حقبة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تواجه خصماً رئيسياً يتمثل بالاتحاد السوفيتي. بينما اليوم تجد نفسها في مواجهة خصمين هما روسيا والصين ويجمعهما هدف مشترك وهو كيفية تقويض النظام العالمي القائم على الهيمنة الأمريكية والدفع باتجاه إنشاء نظام عالمي جديد مُتعدد الأقطاب. تبدو المحاولة الأمريكية لفصل الصين عن روسيا وسط هذه الأزمة صعبة للغاية وقد تؤدي إلى نتائج عكسية. بدلاً من ذلك، سيتعين على إدارة بايدن العمل على كيفية الموازنة بين مواجهة التهديد الروسي لأوروبا من جهة والحفاظ على زخم الاستراتيجية الأمريكية في احتواء الصين من جهة ثانية.

 

*باحث في العلاقات الدولية

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]