علي الصراف يكتب: رتق الفتق في القيم والأخلاق

علي الصراف

كشفت أزمة كورونا عن خلل أخلاقي لم يكن منظورا من قبل. وهو خلل كان كافيا بمفرده ليكون السبب في موت الكثيرين ممن كان يمكن علاجهم، أو ممن كان يجب أن يبقوا على قيد الحياة.
على المستوى الفردي، لا يصح الشك بالطبيعة الإنسانية لدى أي طبيب، ولا بحرصه على حياة كل مرضاه. وحتى في أحلك الظروف، فقد قدم ملايين الأطباء، على مدار الكرة الأرضية من الدلائل ما يكفي على أنهم مقاتلو جبهة إنسانية، وأنهم في مواجهة وباء، يسقطون كما يسقط الشهداء. ولكن الأمر ليس هو نفسه بالنسبة للمؤسسات الصحية الغربية ولا لثقافتها العامة. فمعاييرها شديدة النفاق، وغبية، وتبني على حسابات لا تمت بأي صلة للمعايير الإنسانية.
فكيف واجه الأطباء الغربيون نقص المعدات وأجهزة التنفس بينما كانوا يسعون لمعالجة ضحايا الوباء؟ وما هي المعايير التي اعتمدوا عليها لكي يقرروا من يعيش ومن يموت من بين المرضى الذين كانوا بين أيديهم؟ بصورة أبسط: عندما يكون لديك مريضان وتملك جهاز تنفس يمكنه أن ينقذ حياة واحد منهم. فمن تختار وكيف تختار؟
هنا تأتي المعايير التي لا يقررها الأطباء بأنفسهم، بل تفرضها الإدارات.
فريق من الأطباء والأكاديميين الغربيين نشر في مارس الماضي، مجموعة من المبادئ التوجيهية في دورية “نيو إنجلاند” الطبية، بشأن كيفية ترشيد الموارد أثناء تفاقم وباء كورونا. وحذرت من تطبيق مبدأ الأسبقية في العلاج لمن يأتي أولا. وشددت على أهمية إعطاء الأولوية للحالات الحرجة بين المرضى الأصغر سنا والذين يعانون من أمراض مزمنة أقل. المبادئ التوجيهية حرصت أيضا على إعطاء الأولوية في الحصول على المعدات الطبية والعلاج للأشخاص الذين يؤدون أدوارا محورية في مكافحة الوباء، مثل من يعمل بالخطوط الأمامية، وغيرهم من الموظفين في المهن الضرورية لتسيير الدولة، باعتبار أن وظائفهم تتطلب تدريبا شاقا ومن الصعب العثور على من يقوم مقامهم.
ونصت المبادئ التي استرشد بها الأطباء الإيطاليون على وجوب إعطاء الأولوية للمرضى الذين تزيد فرص شفائهم بالعلاج. ووصفت المبادئ الوضع الحالي بأنه يشبه طب الكوارث، وذكرت أنه قد يكون من الضروري وضع حد أقصى لعمر المريض الذي يسمح بنقله إلى غرفة العناية الفائقة.
وينقل تقرير لـ “بي.بي.سي” نشر في 30 ابريل الماضي عن إزيكيل إيمانويل، رئيس مجلس إدارة الأخلاقيات الطبية والسياسة الصحية بجامعة بنسلفانيا، قوله “إن المعيار الأساسي هو تعظيم الفوائد، من حيث عدد الأرواح التي سينقذها الأطباء وعدد السنوات التي سيعيشها المريض بعد التعافي”.
وهكذا فقد وُضع كبار السن والذين يعانون من أمراض مسبقة، والذين يحتاجون الى رعاية من جانب آخرين وذوي الإعاقة، في ذيل قائمة الأولويات.
أحد المآسي التي ذكرها ذلك التقرير، أشار الى مبادئ أصدرها المعهد الوطني للصحة والرعاية المتميزة بشأن كيفية تقييم مدى أحقية المرضى فوق 65 عاما الذين لا يعانون من إعاقات طويلة الأمد في العلاج بأجهزة التنفس الصناعي. فبناء على مقياس للوهن بسبب التقدم في العمر، يطرح خلاله الطبيب على المريض أسئلة حول مدى اعتماده على الآخرين لمزاولة أنشطته اليومية. أحد الأطباء بمستشفى لندن، مسترشدا بهذا التوجيه، سأل إحدى المريضات إلى أي مدى يمكنها السير دون أن تتوقف لتلتقط أنفاسها، فقدمت له وصفا لحالتها بعد الإصابة، وظن الطبيب أن تلك هي حالتها الدائمة، فسحب عنها جهاز التنفس الاصطناعي ليعطيه لمريض آخر، وتركها لتموت.
يحتفل البريطانيون بالكابتن توم مور، وهو عسكري متقاعد يبلغ من العمر 100 عام بوصفه رمزا. بعد أن قرر تنظيم حملة لجمع التبرعات لمؤسسة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، مقابل أن يقوم بمئة دورة في الحديقة حول منزله، وهو يستند الى عكاز لكي يساعده على المشي. فجمع أكثر من 29 مليون جنيه إسترليني. ولدى احتفاله بعيد ميلاده المئة، تمت ترقيته الى كولونيل فخري. ووفقا للمبادئ التوجيهية تلك، فانه يتعين أن يكون آخر من يحصل على علاج لو أنه أصيب بالوباء.
لا أحد يمكنه أن يصدق، أن هذا الرجل سوف لن يلقى العلاج. ولو غامر طبيب بأن يرفع جهاز التنفس عنه لكي يعطيه لشاب، فإنه سوف يُطرد من وظيفته أو يظل مُدانا مدى الحياة لأنه ضحى برجل قدم لبلاده في الحرب العالمية الثانية وقدم لخدمات الصحة الوطنية ما لم يقدمه كثيرون.
تكشف هذه المفارقة عن جانب من نفاق تلك المعايير. ولكنها تكشف عن غبائها أيضا، وعن فتق في الأخلاق لا يمكن رتقه.
وما من أحد يمكنه أن يشك بأن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون تلقى علاجه من وباء كورونا بوصفه “رئيس وزراء” وليس وفقا لأي معايير أخرى. وما من عيب في ذلك. فالمكانة أو الدور الذي يلعبه أي إنسان، أو القيمة المعنوية التي يمثلها، لا بد أن تكون معيارا مهما. إلا أن المؤسسات الصحية الغربية لا تأخذ المكانة أو الدور أو القيمة المعنوية بالحسبان. ليس على جميع الناس، على أي حال.
ولكن، أين تخطئ المؤسسات الغربية الخطأ الأكبر؟
النظر الى العمر معيار أحمق. ضع الكابتن توم، مع شاب له سجل من الجرائم. فأيهما يجب أن تعالج أولا؟ ضع أديبا بعمر يتجاوز الـ 65، أمام أمّي أو جاهل في الثلاثينات، فأيهما يستحق جهاز التنفس أكثر؟ ضع امرأة في الخمسين لديها أربعة أطفال، مع رجل في أصغر منها ولا يرعى أحدا، فمن تختار؟ ضع عالما في الفيزياء أو الكيمياء أو أستاذا جامعيا، أمام عامل بناء؟ ستقول كلاهما يجب أن يعيش. وهذا حق. ولكن أيهما “العادي”، وأيهما “الاستثناء”؟ بين المتعلم وغير المتعلم، كما بين الجاهل والمثقف، فان الخيار لا يمكنه أن يتوقف على العمر ولا حتى على المعاناة من أمراض مسبقة. ثلاثة أرباع الذين حصلوا على جائزة نوبل هم من كبار السن، وممن يعانون أمراضا مسبقة. ولكن بحسب معايير النفاق الغربية تلك، فإنهم أول من يتعين التضحية بهم.
عشرات الآلاف ماتوا، أو بالأحرى قتلوا، بتلك المعايير التي تنم عن فقر أخلاقي شديد، وعن عوز إنساني أشد. وكان دافعها اقتصادي بالدرجة الأولى، فالذين تجاوزوا سن الـ 65 هم في الغالب متقاعدون. وهو ما يعني أنهم باتوا عبئا. صحيح أنهم دفعوا ضرائب، وقدموا للاقتصاد ما يتجاوز كل ما قد يحصلون عليه، إلا أنهم، وفقا لتلك المعايير باتوا لا يستحقون الحياة.
وهذا فتق لا رتق له. لأنه بالأحرى، فتق في قيم وثقافة لم تعد هي نفسها تستحق الحياة

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]